ذكريات تعود للحياة على رسغي


بدأت القصة باهتمامي المتزايد بالعيش البسيط والمتمهل، والذي يشجع على تخفيف الاستهلاك والتصرف بمسؤولية تجاه البيئة. الأمر الذي يتيح لنا الاستغناء عن كل ما هو فائض، ويساعدنا على الاستمتاع بما لدينا والتركيز على ما هو مهم، عوضاً عن الانشغال بشراء وتكويم أشياء لا نحتاج إليها، ويحصننا من الشعور الدائم بالنقص الذي تعززه الحملات التسويقية والإعلانات. 

تعجبني فكرة التقليليّة، والتي هي جوهر العيش البسيط. خصوصاً بعد عدة تجارب تنقلت فيها بين عدة مساكن في مدن مختلفة. استشعرت وقتها أهمية الخفة، وبساطة ما نحتاج إليه فعلاً، وسهولة مراكمة الكراكيب دون أن نشعر، لتتحول بعد فترة لعبء في النقل والتخزين، وفائض يثقل علينا بالمساحة التي يشغلها وبالجهد الذي يحتاجه في إبقائه نظيفاً وصيانته والمحافظة عليه.

وفي أثناء البحث والقراءة عن الموضوع صادفت هرماً يحاكي هرم ماسلو الشهير للحاجات الإنسانية الأساسية. قامت المصممة الكندية سارة لازوريك بتعديله وتحويره وأطلقت عليه "هرم القرار الشرائي"، والذي فيه تدرج مقترح لكيفية الحصول على ما نحتاجه كالآتي:


وكان أول قرار طبقت عليه هذا الهرم الحصول على ساعة "جديدة". كنت أرتدي لفترة طويلة ساعة حصلت عليها عندما كنت في الصف الأول الثانوي بعد تحصيلي علامات جيدة. وبما أنها احتاجت إلى تغيير بطارية، فكرت أنها فرصة لاستبدالها بساعة أخرى للتجديد. 

سألت أمي إن كان لديها ساعة لا تستخدمها في الوقت الحالي. فبحثنا سوية في مقتنياتها لنرى ساعة كاسيو أعاد ظهورها الكثير من الذكريات. لقطات ضبابية تشبه لقطات استرجاع الماضي في الأفلام، حيث تكون الألوان باهتة وهناك موسيقى هادئة تختلط مع أصوت الأطفال. عادت إلى ذاكرتي مشاهد لنا في مطبخنا الصغير قبل عشرين عاماً وأمي تطعم أخي الصغير بملعقة بلاستيكية خضاراً مطحونة وبعض اللبن، وعلى رسغها النحيل هذه الساعة الرقمية. 

"ماما ذكرني شو قصة هاي الساعة...؟" طلبت من أمي. ابتسمت بمرح وقالت لي أنها هدية من جدي رحمه الله. أحضرها معه عندما سافر إلى اليابان في نهاية السبعينات. تقول أمي أنه لم يكن السفر متاحاً كما هو الآن، وكان يتطلب الكثير من التخطيط والجهد. لكن جدي كان دائم الرغبة بتطوير تجارته، ورأى في ذلك الوقت أفقاً واعداً في الصناعات اليابانية التي كان يستوردها لمحله في وسط البلد في شارع بسمان. وأضافت بامتنان: "كان - الله يرحمه - كريم، وكان دايماً يجيبلنا هدايا حلوة".

لكن ساعة رقمية في نهاية السبعيات؟! بالتأكيد هدية غريبة وجميلة.
تقول أمي بزهو أن الساعة كانت "صرعة". ساعة قادمة من المستقبل، يظهر التاريخ عند الضغط على زرها الجانبي وكانت "تغني" وقت المنبه. ارتدتها عندما كانت في المرحلة الثانوية ورافقتها في دراستها الجامعية، وحتى بعد أن تزوجت.
 




قلت لنفسي بالتأكيد لن أجد أفضل من هذه الساعة!

سألت عن ساعاتي في السوق، فقالوا لي أن هناك محل تصليحات يمكنه أن يساعدني في تغيير بطارية الساعة. ذهبت إليه وسألته إن كان يستطيع تغيير بطارية ساعة كاسيو رقمية قديمة. أخذ سؤالي عن استطاعته بشكل شخصي وكأنها إهانة. كان يجب عليّ أن أعرف أنه خارق للطبيعة ولا يُعجزه شيء. استعصى عليه فك برغي دقيق فأخرج من جيبه موساً حاداً. سألته بانفعال ماذا يفعل، فقال أنه لقِدم الساعة، عليه أن يفتحها عنوة. فأجبته بعدم موافقتي على هذه المخاطرة وطلبت منه إرجاعها لي.
نظر إلى الساعة باستخفاف وأجابني بتهكم: "عموماً البطارية بخمسة (دنانير)، والساعة الجديدة بعشرة. كبّيها واشتري واحدة جديدة أحسنلك". 
شردت لبضعة ثوانٍ في اقتراحه السخيف. لكن ربما علي أن أعذره، فهو لا يعرف من أحضرها، ولا من أين أو متى، ومن لبسها ومعزتهم على قلبي. 
ثم متى أصبح هذا المبدأ مقبولاً؟ "كُبّيها واشتري واحدة جديدة"...؟ 

تذكرت اقتباساً من مقال يستحق القراءة لإدواردو غاليانو يقول فيه:
"أنا قادم من زمن ليس ببعيد جداً، كنا نشتري فيه السلعة لتخدمنا مدى الحياة، بل لتخدم من هو قادم بعدنا، من زمن كنا نرث ونورث ساعات الحائط وأوراق الشدة وأكياس الزوادة وحتى الأواني الفخارية."

نهاية القصة سعيدة، الحمد لله، بأني وجدت في نفس السوق وفي نفس الشارع ساعاتي حقيقي ورث الصنعة عن والده. عامل ساعتنا العزيزة بالاحترام الذي تستحقه وأعاد لها الحياة، وها أنا أرتديها على رسغي ببالغ السعادة، دون أن أزيد الطلب على سلعة لا أحتاجها أو أقوم بشراء شيء فائض. 


المكتبة العامة: حديقتي غير السرية


هل بالغ الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس عندما قال في إحدى قصائده: "وأنا الذي تخيلت دوماً الجنة على شكل مكتبة"؟
إذا كنا من محبيّ القراءة ولدينا تصوّراتنا عن الجنة بأنها مكان هادئ، ينعم بالأمان، ويحتوى على ما لذّ وطاب (فكرياً)، فإن احتمالية اتفاقنا مع بورخيس عالية جداً. بالنسبة إلي، المكتبة العامة التي أتردد عليها واحة صامتة، تصطف فيها الكتب بجلال، تفتح لي في كل مرة أزورها آفاق لم أكن أعرف بوجودها. فزيارتها نشاط فردي ممتع باعث على الراحة، أقضي فيه وقتاً نوعياً مع نفسي، وأتقاسم مع رواد المكتبة صمتاً مريحاً يمكنني من التفكير بصفاء، والاستمتاع بتصفح الكتب المركونة بعناية، وأخرج منه محمّلة بزوّادة شهية تحمّسني لعدة أسابيع قادمة.

التالي عدد من الأسباب التي تجعلني من محبي المكتبات العامة ومن المواظبين على استعارة الكتب منها:



- احتمالات لا نهائية
في العادة أذهب إلى المكتبة وفي جعبتي قائمة بأسماء كتب سمعت عنها، أو صادفت على مواقع التواصل اقتباساً ملفتاً منها، أو قرأت مراجعات لها على موقع جودريدز. لكن ما يحصل في أغلب الأحيان أني أجد واحداً أو اثنين (وفي بعض الأحيان لا أجد أبداً) وأخرج مبتهجة بكتب أخرى غير مدرجة على القائمة. لماذا يحصل ذلك؟
هناك الكثير من التفسيرات.

فمثلاً، من الوارد أن يكون أحد الكتب مستعاراً من قبل شخص آخر، لذلك علي تأجيل استعارته حتى يفرغ الآخرون منه. وذلك مبدأ تشاركي جميل، يعلمني فضيلة الصبر ويذكرني بأهمية المشاركة.

وبالمناسبة، هناك متعة غامضة أجدها في الاطلاع على الصفحة الأخيرة من الكتب في المكتبة العامة، حيث يكون هناك جدول مرفق تنطبع عليه تواريخ الإرجاع بأحبار حمراء وزرقاء.


أؤلئك الأشخاص الذين قاموا باستعارة الكتاب وكان متوقعاً منهم إرجاعه في إحدى التواريخ المختومة من الممكن أن يكونوا أصدقائي في عالم موازٍ. أتخيل أن بيننا شيء مشترك وهو اهتمامنا بنفس الكتاب، وفي حال التقينا نستطيع أن نتحدث عنه وإن كنا أحببناه أم لا كونه رافقنا لأسبوعين على الأقل، حيث حملناه في حقائبنا، واستضفناه في بيوتنا وقلبنا صفحاته وقرأنا محتواه وركناه على مكاتبنا أو تحت المصابيح الجانبية قبل النوم.

سبب آخر يدفعني لعدم التقيّد بقائمة كتب معدة سابقاً هو أرفف المكتبات السحرية. فهناك رف "وصل حديثاً" ورف آخر "أعيد للتو"، يكون عليهم عناوين ملفتة وأسماء براقة تجعل من مقاومة استعارة تلك الكتب أمراً صعباً.

كما أن هناك أرفف الأقسام من أدب وسياسة وتاريخ ولغات وغيرها. صحيح أن محركات البحث الخاصة بفهرس المكتبة تقودنا إلى أرفف تحتوي على الكتب التي نبحث عنها، لكن تلك الأرفف من الممكن أن تحتوي أيضاً على مؤلفات أخرى لنفس الكاتب، أو مؤلفات أخرى في نفس الموضوع. لذلك من الطبيعي أن تجذبنا وتثير فضولنا، فنتصفحها وينتهي بنا الأمر باستعارة كتب أخرى.

قائمة الكتب المقترحة - على خلاف الكثير من خطط الحياة الأخرى - تتمتع بقدر عال من المرونة ونتيجتها شبه ثابتة: الحصول على ثلاثة كتب نختارها نحن حسب تفضيلاتنا ومزاجنا في تلك الزيارة لمدة أسبوعين (قابلة للتمديد لأربعة).



-  التقليلية أو العيش البسيط
هناك العديد من عشاق تجميع الكتب حول العالم، فلا يزال اقتناء الكتاب أمتعة بحد ذاتها بالنسبة للكثيرين. إلا أن هناك توجه متزايد نحو التقليلية أو نمط العيش البسيط الذي يدعو للتخلص من الأشياء الفائضة والرجوع إلى الأساسيات لعيش مريح ومتوازن.
والاستعارة جزء أصيل من نمط الحياة ذاك. ففي حال بدأنا بقراءة الكتاب ولم يعجبنا، فإن شعور التورط أقل وطأة في حال كان الكتاب مشترى (بصراحة). وحتى في حال كان الكتاب جميلاً وأحببناه لكننا متأكدون أننا لن نقرأه أكثر من المرة فإن استعارته هو التصرف العملي في هذا السياق. تمكننا الاستعارة من الاستمتاع بقراءة الكتاب ورقياً، مع توفير ميزانية شرائه لأنشطة أخرى وعدم القلق بشأن تخزينه ونقله أو إعادة تدويره.


- تنظيم وتيرة القراءة
فكرة أن الكتاب متاح للاستعارة لمدة أسبوعين فقط (قابلة للتمديد لأربع) يساعد في تنظيم الوقت. لذلك يتم التركيز على مطالعة الكتب المستعارة دون المماطلة والتأجيل الذي يحصل كثيراً بعد شراء الكتب.

مع الاستعارة بشكل دوري تنتظم وتيرة القراءة ويشعر المرء بنوع من الالتزام لإنهاء قراءة ما استعار ضمن إطار زمني محدد. ما أفعله أنني أقرأ كتاباً فكرياً أتبعه بعمل أدبي خفيف وأحاول التنويع، وكأني أعطي نفسي استراحات من الكتب الثقيلة بأخرى ممتعة وسهلة نسبياً. والتنوع الواسع في الكتب المتاحة في المكتبة يمكنني من القيام بذلك بسهولة.  


ماذا عنكم؟ هل تفضلون استعارة الكتب أم اقتنائها؟
وهل ترتادون المكتبات العامة في مدنكم؟ وما هي الأسباب التي تدفعكم لذلك؟

كيف تُعيّد وأنت محجور؟


أنا أحب العيد.
لكن في كل عام تتسلل إلى قلبي خيبة أمل صغيرة لأن العيد لم يعد جميلاً  كما كان عندما كنت في السابعة من عمري. عندما كنا نسكن في حي يعجّ بالأطفال، ونتفق أن نذهب مع أولاد الحارة مشياً إلى الدكان لنشتري بميزانية أكبر بقليل من الأيام العادية حلوى وسكاكر لها في ذلك اليوم مذاق خاص. عندما كان الكبار يضعون زينة ملونة في العمارة وتعلق أمي في غرفة المعيشة زينتها الورقية المميزة التي اشترتها من "الشام" والتي تتناغم مع أغنية صفاء أبو السعود الشهيرة "العيد فرحة" التي كانت تبث باستمرار على محطة التلفاز المحلية. عندما كنا نستحم ونرتدي ملابسنا الجديدة المليئة بالكشاكش والإضافات الاحتفالية ونذهب ونحن نشعر أننا بكامل أناقتنا لممارسة تقليدنا العائلي بالتقاط صورة تذكارية في ستوديو روبينا.


وكردّ فعل مقاوم، أحاول في كل عام وأنا بالغة راشدة (ومملة؟) أن أجعل من العيد حدثاً سعيداً. أنا متصالحة مع أنه لن يكون بجمال العيد كما كان في التسعينات من القرن الماضي، لكني لا أقبل بالجلوس على الأطلال وأن أجعله يمر كأي يوم عادي.

والآن، ونحن نمر بفترة يرى البعض أنها "تاريخية" مع حالة الحظر والحجر المنزلي والإغلاقات وكل الترتيبات المستحدثة مع فايروس كورونا، ما أحوجني لعصف ذهني مبتكر وشحذ كل مخزون الطاقة الاحتياطي لأجعل من هذا العيد عيداً سعيداً.

بعد التفكير وإجراء عدد من النقاشات مع أفراد العائلة، الآتي مقترحات لاستشعار العيد في على الرغم من ظروف الحجر والحظر الشامل:

1. الاستمتاع بالنظافة


أ) تعزيل البيت والاستمتاع بنظافته
أعلم أن هذا البند قد يسبب التذمر لدى الكثيرين، فما الممتع في أعمال تنظيف شاقة لمطاردة الغبار في الزوايا وتلميع الأسطح؟
لكن دوافعنا هذا العيد مختلفة، فنحن ننظف لأهل البيت وليس تجهيزاً لاستقبال الضيوف. القاطنون في البيت هم من سيستمتع برائحة النظافة والمشي حفاة القدمين على الأرض النظيفة خلال فترة العيد. ثم لا عيد سعيد بدون بيت لامع ونظيف.

ب) تغيير الملاءات والشراشف وارتداء بيجاما نظيفة ليلة العيد
جرعة سعادة فورية مضمونة النتائج، خصوصاً إذا توافقت مع النقطة التالية.

ج) حمام العيد مع نشاطات عناية شخصية إضافية كعمل قناع للوجه أو حمام زيت أو أي شيء يبعث على السعادة والاسترخاء.


2. زينة يدوية الصنع


يفضل أن ينخرط في هذا النشاط أكبر عدد ممكن من أفراد الأسرة على اختلاف أعمارهم وقدراتهم الفنية. كما ينصح بوضع الزينة في مكان مرئيّ للجميع ويجلس فيه الجميع باستمرار كالمطبخ أو/و غرفة الجلوس. يمكن الاستعانة بأفكار من اليوتوب وانستجرام للاستلهام، كما يفضّل إعادة تدوير ما في متوفر في المنزل بشكل خلّاق لصنع الزينة.


3. عمل طبق احتفالي يحبه الجميع في البيت
بالإضافة إلى الفطور الكبير أول أيام العيد، يمكن عمل طبق، سواء كان طبقاً رئيسياً لوجبة الغداء أو العشاء أو سلطة أو طبق حلويات، على نيّة تفريح أفراد العائلة. بالإضافة إلى التركيز على الإعداد المتقن، ينصح بالاهتمام بالتقديم لأنه كما هو متعارف "العين يلي بتاكل" ولأن الأطباق الوسيمة لديها قدرة عالية على التفريح وتحسين المزاج.

4. لا لعيد بالبيجاما
رفض قطعي لقضاء العيد بملابس النوم. يمكن التساهل بالسماح بتناول الفطور بملابس النوم، ولكن على جميع الراغبين بالشعور بالعيد الاستيقاظ باكراً وسماع تكبيرات العيد ثم تغيير ملابسهم وارتداء ملابس جميلة. ليس بالضرورة ملابس الخروج، بل ملابس منزلية مريحة ومرتبة ومتناسقة.
في السّنة النبوية الشريفة من المستحب ارتداء *قطعة* جديدة، لذلك سأرتدي جورباً أهدتني إياه سابقاً صديقتي نور ولم أرتده بعد.


5. نشاط مشترك مرح
اقتطاع وقت من حالة التحديق المستمرة بشاشات الهواتف الذكية لعمل نشاط محبب بشكل جماعي. لا تحب عائلتي الشدة ولا الألعاب اللوحية، لذلك نفكر في مشاهدة شيء على التلفاز. لم تتوصل العائلة لقرار بعد، فأفلام الأبيض والأسود إيقاعها ممل بالنسبة لأمي، وأبي لا يحب المسرحيات المصرية الكوميدية ولا نزال نفكر في مادة خفيفة ظريفة بدون دراما للعيد تجعنا نضحك مع ميول نوستالجية واضحة لدى الجميع.

6. معايدات هاتفية
هناك اتجاه واضح ومتزايد لتفادي التواصل البشري ما أمكن، لكن لا.. ليس في العيد!
يفضل أن تكون المعايدات صوتية ولا تحبّذ الرسائل النصية للأقارب والأصدقاء المقربين. نحن بحاجة لسماع أصوات بعضنا، لالتقاط زفرات من هم بعيدون عنا، لسماع ضحكات من نحب وللإحساس بهم عوضاً عن رسائل واتساب نصية "قص ولصق" مفرّغة من المعنى. كما أن العيد فرصة للتواصل مع أصدقاء نحبهم ولم نسأل عنهم منذ فترة طويلة، وبالأخص من يسكنون خارج البلاد.
شخصياً أقوم في كل عيد بعمل قائمة بأسماء الأصدقاء والزملاء السابقين الذين أود الاتصال معهم حتى لا أنسى أحداً. وفي حال لم أنجح - لسبب ما - بالاتصال بهم جميعاً، آمل أن أكون أخذت أجر النية إن شاء الله.

الأفضل أن تكون المكالمات الهاتفية للمعايدة قصيرة نسبياً، بحيث يتبادل الطرفان المعايدات وأبرز الأخبار للاطمئنان على بعضهما. لذلك تجدر الإشارة في بداية الاتصال أنه لا نية للإطالة، ويمكن ختم الاتصال بقول "أردت فقط سماع صوتك والاطمئنان عليكم والمعايدة عليك شخصياً .. كل عام وأنت والأهل بخير وتقبل الله طاعاتكم".
من تجربة، الاتصالات الهاتفية لها أثر كبير في صلة الأرحام وعلى نفوس الناس. فهي إنسانية أكثر من الرسائل النصية الجامدة وفيها مجهود إضافي يقدّره الأهل والأصدقاء ويشعرهم بالاهتمام.

كانت هذه اجتهاداتنا، على أمل أن تعطيكم بعض الأفكار وشيئاً من الإلهام. إذا كان لديكم أي اقتراحات أو مخططات لهذا العيد، لا تترددوا بمشاركتها في التعليقات.

كل عام وأنتم بصحة وعافية وتقبل الله طاعاتكم.

قنبلة مايكل مور في يوم الأرض: فيلم "كوكب من البشر"

"كوكب من البشر" فيلم آخر مثير للجدل للمخرج والمنتج الأمريكي مايكل مور نشره على قناته في يوتيوب مجاناً ولمدة شهر واحد في 21 نيسان الماضي بالتزامن مع الذكرى الخمسين لما يطلق عليه "يوم الأرض".  أثار الفيلم الذي كتبه وأخرجه الناشط البيئي جيف غيبز وأنتجه مايكل مور حفيظة العديد من أعلام ونشطاء البيئة. فهو يكسر أصناماً تربعت على عرش المشهد البيئي لتعلب دور من ينقذ الكوكب في الوقت الذي تسير به في الاتجاه المعاكس تماماً. وحتى كتابة هذه التدوينة، أي بعد حوالي 3 أسابيع من نشر الفيلم؛ حقق ما يقارب ال 8 ملايين مشاهدة مسبباً ردود فعل ترواحت بين السخط والدهشة والانزعاج والتشكيك حول مسألة تزداد أهميتها يوماً بعد يوم.

مصدر الصورة

يقول صانع الفيلم جيف غيبز: "إن فيلم “كوكب من البشر” مصمَّم لتحفيز النقاش فيما يتجاوز القضية الضيقة لتغيُّر المناخ، والنظر إلى التأثير البشري الشامل على البيئة، يشمل ذلك قضايا مثل الاكتظاظ السكاني وأزمة الانقراض المعاصرة والتي شهدت انقراض نحو 40% من الحياة البرية في السنوات الـ40 الماضية، وما إذا كانت “التكنولوجيا الخضراء” قادرة على حل هذه المشكلات".

كان هناك اعتقاد سائد أن بدائل الطاقة النظيفة مكلفة، إلا أننا نرى بشكل متزايد منتجات حديثة يروج لها على نطاق واسع بأنها صديقة للبيئة واقتصادية وبأسعار معقولة نسبياً وفي متناول شرائح مختلفة من المستهلكين حول العالم. يفنّد الفيلم إلى أي مدى يمكن اعتبار تلك المنتجات صديقة للبيئة كالسيارات الكهربائية وخلايا توليد الطاقة الشمسية وغيرها من التكنولوجيات الخضراء الحديثة، آخذاً بعين الاعتبار ما تحتاجه عمليات استخراج المواد الخام التي تدخل في تصنيع تلك المنتجات وفعاليتها وحاجتها للوقود الأحفوري للتشغيل. ومن خلال عدة مشاهد متتابعة في الفيلم يصل المشاهد/ة لانطباع أن المنتج المروج له على أنه صديق للبيئة أكثر شراسة وتدميراً للكوكب من ما يُفترض أنه بديل له.  

لعبة التظاهر
يوثّق صانع الفيلم عادة مشاكسة يقوم بها الناشط البيئي وصانع الفيلم، جيف غيبز، في كل "الفعاليات البيئية" التي يرتادها. حيث يحرص على الذهاب إلى كواليس المهرجات الموسيقية التي تتفاخر بأنها تعتمد في تشغيل آلياتها على 100% طاقة متجددة، ليجد مساحة شكلية من الخلايا الضوئية التي بالكاد تكفي لتشغيل جيتار إلكتروني. وبعد الإلحاح والتقصي، يريه متعهدو الفعاليات في ركن قصيّ محولاً كهربائياً تقليدياً يعمل على الديزل بينما يتقافز شبان وفتيات بملابس الهبيّز على أنغام موسيقى صاخبة. يقدم غيبز تلك الوقائع المتكررة كأعراض مصاحبة لحالة وهم تمرّ بها كثير من الحركات البيئية. قد يكون لدى أعضاء تلك الحركات نيّة حسنة بالتغيير، لكن كثيراً من نشاطها يبقى طافياً على السطح ولا يوغل بالعمق الكافي لإيجاد حلول حقيقية لحل – أو على الأقل للتخفيف من – المشكلة. 
مصدر الصور
لكن، وبحسب الفيلم، فإن حسن النية لا يرافق لعبة التظاهر البيئية دائماً. فهناك شركات كبرى ورجال أعمال وسياسيين ومتنفذين يقودهم رأس المال من خلال إعفاءات ضريبية وأرباح فاحشة ومنح بالمليارات لمشاريع وصفت في محطات عدة في الفيلم بأنها "وهمية وشكلية وغير مستدامة". مثال على ذلك كان حفل إطلاق جنرال موتورز للسيارات الكهربائية. فبعد مؤتمر صحفي مليء بالكلمات الرنانة والمدراء الفخورين بالجهود البيئية يرافق غيبز مندوبي الشركة ويسألهم عن مصدر الكهرباء الذي يتم شحن السيارة الكهربائية منه. فيرد أحدهم ببلاهة: من كهرباء المبنى. يلح غيبز بالسؤال ويسأل عن مصدر كهرباء المبنى ليكشف أنه معتمد على محطات طاقة تعمل على الفحم.

موجة غضب عارمة
كما هو متوقع، فإن فيلم وثائقي يطعن في مصداقية شخصيات وشركات بارزة تتصدر المشهد البيئي ويكشف تداخل الحركات البيئية مع رأس المال لن يمر مرور الكرام. فقد أحدث وقعاً مدوياً في أوساط علماء المناخ ومنظمي الحملات البيئية الذين يدعمون حلولاً على غرار الخلايا الضوئية والسيارات الكهربائية والوقود الحيوي ويحصلون على التمويل والدعم. من تلك الشخصيات البارزة آل غور وروبرت كندي الابن وديفيد بلود وبيل ماكبين وغيرهم من تنظيمات أخرى تترأس المشهد.
يرى غيبز أن جهود النشطاء البيئيين يجب أن تركز على مسائلة وتغيير سلوكيات الاقتصاديات غير المقيدية ومحاربة الاستهلاكية عوضاً عن التواطؤ معها بتقديم منتجات تكنولوجية وكأنها الحل. فقد تم تصوير بيل ماكبين بأنه ظاهرياً أحد أبرز مناصري البيئة عالمياً وزعيم مجموعة حملة 350 org. التي لها فروع حول العالم، لكنه في مرحلة ما روّج للوقود الحيوي – والذي يتم الحصول عليه من رقائق خشبية يتطلب إنتاجها في كثير من الأحيان القضاء على غابات وتشويه غطاءات نباتية. بالإضافة إلى التمويل السخي الذي يحصل عليها من شركات تجارية كبرى سيئة السمعة فيما يتعلق بممارساتها الجائرة غير البيئية.
ينكر بيل ماكبين تلك الادعاءات وعلى حصوله على المال من كبرى الشركات، ويقول أنه تراجع عن موقفه تجاه الوقود الحيوي، ويضيف أنه "معتاد على المضايقات والتهديدات من قبل قطاع صناعات الوقود الأحفوري لكنه متألم من الهجوم من قبل من يحسبون أنفسهم بيئيين".
لم يكن اليمين الأمريكي المصدر الوحيد للغضب والانتقادات، حتى من اليسار فهناك من يرى أن السردية التي قدمها الفيلم خدمت اليمين أكثر من أي وقت مضى. ففي سبيل كشفه لتناقضات الحركات البيئية، استخدم مور الكثير من الحجج التي كان يروج لها اليمينين المنكرين للتغير المناخي في حملاتهم، الأمر الذي قد يزعزع بعض القناعات ويرتد سلباً على الحركة البيئة ككل. فقد هاجم أبرز أعلام المشهد البيئي دون أن  يمثل شريحة كبيرة من النشطاء البيئيين الذين لديهم مواقف راسخة ضد الوقود الحيوي والقضاء على الغابات وإشكاليات تصنيع بعض تكنولوجيات الطاقة البديلة.

هل الحل لمشاكلنا البيئية التوقف عن الإنجاب فعلاً؟
مفارقة لا بد أن تستوقف الكثيرين تم طرحها في الفيلم الذي يتزامن عرضه مجاناً مع أزمة كورونا والحجر المنزلي في كثير من الدول، هي أن هناك رسالة واضحة ذُكرت في منتصف الفيلم تطرح خطورة الانفجار السكاني وتضاعف أعداد البشر بوتيرة لم تسجل من قبل في التاريخ. وكأن أحد الحلول للتخفيف من الضغوط البيئية التخلص من أعداد كبيرة من الناس. ما يتم تقديمه عادة في نفس السياق الطرح القائل أن أفضل ما يمكنك أن تفعله للبيئة هو أن تمتنع عن الإنجاب. لكن من المعني بهذا الطرح؟
تشير الإحصاءات إلى أن نسبة النمو السنوية عالمياً 1% ، بينما كان الاستهلاك يزداد سنوياً، حتى بدء جائحة كوفيد-19، بمعدل 3% بحسب دراسات صندوق النقد الدولي. من الملفت أن الدول الأكثر نمواً لديها قوة شرائية أقل وتعتبر أكثر فقراً، بينما الدول الأقل نمواً هي الأكثر استهلاكاً والأعلى في إنتاج التلوث عالمياً. يرفض الصحافي جورج مونبوت في مقال له في صحيفة الغارديان أطروحة فيلم غيبز ومور، ويراها غير متوازنة، حيث تقدم تناقضاً عنصرياً عندما يقوم أثرياء مثلهم بالتنظير على دول الجزء الجنوبي من العالم من خلال إشارات مبطنة بالفيلم لعدم التكاثر والإنجاب. وكأنهم، بحسب مونبوت، يقولون أن المٌلام في هذه المعادلة: "ليس نحن المستهلكون، وإنما أنتم الذين تتكاثرون باستمرار"، دون التركيز الكافي على المشاكل الحقيقية التي تسببت بها دول العالم الأول.
يقول مونبوت: "التذرع بالنمو السكاني هو ما تلجأ إليه عندما لا تفكر بالعمق الكافي بحجّتك. التذرع بالنمو السكاني هو ما تلجأ إليه عندما لا يكون لديك الشجاعة الكافية لمواجهة مشاكل هيكلية ومُمأسسة تسببت بالورطة (البيئية) التي وقع العالم بها: وهي عدم المساواة، والنفوذ النخبوي، والرأسمالية."

بالتأكيد الموضوع شائك وأعقد من أن يُقدّم في فيلم وثائقي مدته 100 دقيقة. هناك الكثير من الأطراف التي تربطها علاقات متشابكة، وما سلط فيلم "كوكب من البشر" عليه الضوء كان تداخل النشاط البيئي بالرأسمالية التي آخر همّها البيئة. يسبب الفيلم إنزعاجاً ضرورياً يجب الإحساس به عند تناول المسألة البيئية، بالأخص خاتمته المحزنة التي فيها استعاره لما فعله البشر بجشعهم وعدم اكتراثهم بغيرهم من المخلوقات الذين يشاركونهم هذا الكوكب. مع كل اختلاف الآراء حوله، يستحق الفيلم المشاهدة. يقول عبد الرحمن منيف أن "العالم لم تغيّره إلا الأفكار" والفيلم يقدم أفكاراً محفزة على التفكير والتأمل. من يعلم؟! قد تغير بعض الأفكار الناتجة عن مشاهدة وثائقيات كتلك هذا العالم يوماً ما.

مشاعر بلا إفراط

في آخر رواية قرأتها لدوستويفسكي يقول فيها على لسان الشخصية الرئيسية: "إن الناس السعداء لا يطاقون في بعض اللحظات". أعرف أنه من الغريب أن تستوقفني جملة حاقدة كهذه، لكنهم يقولون أننا نميل لقراءة ما يتوافق مع أفكارنا ومعتقداتنا ومشاعرنا. وتلك الجملة في تلك اللحظة جعلتني أبتسم. أذكر أنه قبل عدة سنوات، وفي أحد الأماكن التي عملت فيها، كان لدينا زميل مفرطٌ في التفاؤل والإيجابية. كان متقمصاً لشخصية مدرب تنمية بشرية على الدوام - قبل أن يتحول ذلك المصطلح من مهنة مؤثرة إلى نصب واحتيال أو صفة للتندر والسخرية. كنت أجده في قرارة نفسي مزعجاً، واحتفظت برأيي لنفسي من باب حفظ اللسان والزمالة. لكن مع الأيام تبين أنه لم يكن يحظى بشعبية عالية في الفريق لنفس الأسباب. ليس الأمر أننا كنا مجموعة موظفين مكتئبين وحانقين على الحياة، فقد كنا نحب الأشخاص الإيجابيين والمتفائلين، لكن باعتدال وبدون تصنع دائم.

يوضع صديقنا المتفائل على المحك في أحد الأيام ويحدث خلاف مع أحد زملائه فيخلع قناعه "السعيد جداً" ونرى منه وجهاً آخر. وجهٌ عدواني وفظ كان مكبوتاً ومقموعاً لأشهر. كان الأمر مدعاة للتأمل حقاً. المثير للاهتمام أن ذلك لم يكن مفاجئاً لكثير من أعضاء الفريق. شيء ما في سعادته الدائمة لم يبدُ سليماً أو صحياً، ولحظة الانفجار كانت متوقعة عاجلاً أم آجلاً.

نحن في النهاية بشر، وإذا كنا سنعيش هذه الحياة فلا بد أن نمر بالكثير من المشاعر المتناقضة. الخوف والطمأنينة، والألم والسعادة، والسكينة والضجر، والفرح والحزن. ربما علينا - كما تعلمت من ذلك الزميل - ألا نتصنع مشاعر دون أخرى، وأن لا نبالغ في إظهار ما نشعر به أو نتصنع ما نظن أن علينا أن نشعر به. من الصواب أن تأخذ كل تجربة وما يرافقها من مشاعر وقتها (وأضيف من تجربتي الشخصية: خصوصيتها). يبدو أنه لن نصل للاطمئنان والسعادة حتى نتقبل الألم والحزن أولاً ونتعافى منه ثانياً. كل تلك المشاعر، الجميلة منها والمؤلمة، لا مفر منها. لكن العبرة في النهوض مجدداً والمقاومة من جديد.

وبالحديث عن المقاومة، صادفت نموذجاً حيّاً منذ عدة أيام عندما خرجت للمشي أنا وأخي عبد الحميد في الحي. الطبيعة ملهمة حقاً في ترميم نفسها والتأقلم مع ما حولها.






قرأت لكم: أزهار ألغرنون


بناء على نصيحة إحدى صديقاتي العزيزات، استعرت هذه الرواية من مكتبة شومان وقرأتها باللغة الإنجليزية. "أزهار ألغرنون" رواية عميقة وباعثة على التفكير والتأمل لم أعرف عنها الكثير قبل قراءتها. لكن بمجرد انتهائي منها وجدت نفسي مهتمة لمعرفة المزيد عن الرواية وعن كاتبها.


تتناول الرواية قصة تشارلي، شاب في الثانية والثلاثين من عمره، يعاني من إعاقة ذهنية ويتمتع بمستوى ذكاء منخفض. يخضع تشارلي، بالتزامن مع فأر التجارب ألغرنون، لعملية جراحية تزيد من مستوى ذكائهما تدريجياً ليصبح تشارلي عبقرياً. لكن خلال رحلة اكتسابه الذكاء يواجه العديد من المشاعر والذكريات ويصبح لديه المدركات الكافية لتحليل ما كان يتعرض له سابقاً من مزاح، وأحياناً كثيرة، سخرية وإساءة. يخلق ذلك لدى تشارلي شعوراً بالخذلان مِن من كان يعتقد أنهم أهله وأصدقائه. كما أن شعوره بالتفوق على من حوله يغذي لديه ميولاً للانعزال وتجنب التواصل مع الناس . تتراجع صحة ألغرنون (الذي خضع لنفس العملية) شيئاً فشيئاً ويموت ليدرك تشارلي أنه سيواجه المصير ذاته. يبدأ بملاحظة أن ذكائه رجع ليتناقص مرة أخرى، الأمر الذي يحفّزه على استغلال قدراته بما تبقى لديه من وقت للمساهمة في إنتاج دراسة علمية يمكنها أن تساعد في تطوير العملية التي تعرض لها ليدوم مفعولها أكثر.

الرواية مؤلمة وجميلة وفيها العديد من لحظات المكاشفة الصادقة. اتخذت الراوية بنية رسائلية، فكانت عبارة عن مذكرات ويوميات كُتبت بضمير المتكلم. كانت في البداية "تقارير مرحلية" طُلب من تشارلي كتابتها بانتظام كجزء من التجربة لقياس تطوره. تكون الكتابة طفولية ومليئة بالأخطاء الإملائية والنحوية ثم تتطور اللغة ومحتوى تلك التقارير والمذكرات تدريجياً ليعيش القارئ/ة على مدى مئتي صفحة تطور الشخصية ثم تراجعها مرة أخرى.


كتب دانييال كيز القصة أولاً كقصة قصيرة عام ١٩٥٨، ثم طورها لتصبح رواية عام ١٩٥٩. كلتا القصة القصيرة والراوية، المصنفتين ضمن الخيال العلمي، حازتا على عدة جوائز. ولأن الفكرة أصيلة وذات بُعد إنساني عميق، فليس من المفاجئ أن يُستلهم منها العديد من الأفلام وحلقات لمسلسلات ومؤلفات موسيقية وغيرها.

لطالما أراد كيز أن يصبح كاتباً. يقال أن والداه ضغطا عليه ليدرس الطب لكنه بعد أن خدم في الجيش رجع وغيّر تخصصه ليدرس علم النفس في كلية بروكلين التابعة لجامعة نيويورك. عمل بعد تخرجه في التحرير في عدد من المجلات ودور النشر، واكتسب خبرته العملية في أقسام الكتب المصورة. واصل العمل والدراسة وحصل لاحقاً على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي. امتهن التدريس وحاضر في جامعة ديترويت في الكتابة الإبداعية، كما كان لديه صفوفاً لتدريس اللغة الإنجليزية لذوي الاحتياجات الخاصة.

كان علم النفس حاضراً في جميع روايات دانييال كيز. فإحدى رواياته "عقول بيلي ميليغان" كانت عن مجرم لديه ٢٤ شخصية مختلفة. استرعت هذه المعلومة انتباهي. احترمت قدرة كيز على أن يجمع بين حبه للكتابة وحقل دراسته، وأن يكون منخرطاً في إثراء حياة الآخرين من خلال العمل مع ذوي الاحتياجات الخاصة. من الواضح في الراوية أن كيز اقترب جداً من طلابه وأنه قضى وقتاً طويلاً في التعرف إليهم وفهم ما يمرون به ولا بد أنه ربطه مع بحوث أكاديمية درسها في الجامعة.
كانت الرواية مزاوجة رائعة بين الكتابة الإبداعية والعلوم النفسية والتجارب الحياتية لأشخاص لا تتاح لهم الفرصة للتعبير عن أنفسهم.

حب أليف غير مشروط

في العام الذي كنت أدرس فيه في لندن، كان هناك انتخابات نيابية في بريطانيا. وكجزء من حملات الأحزاب المختلفة جاءت مندوبة من حزب المحافظين إلى حفل إفطار قريب من الجامعة التي كنت أدرس فيها. المندوبة البريطانية من أصول هندية جاءت لتخاطب مجموعة من "الأقليات المسلمة" الميالين لليسار لتحثهم على إعطاء أصواتهم لحزبها اليميني. كانت فحوى كلمتها متمركزة حول أهمية الأقليات المسلمة في المجتمع البريطاني وحول مشاركتهم الفاعلة اقتصادياً. أشارت إلى شخصيات بريطانية مسلمة لامعة وثرية ومشهورة وركّزت على أنهم استغلوا الفرص التي قدمتها لهم تلك البلاد، وأكدت على أهمية تواجدهم - كمجتمع مسلم - في المقدمة.

أذكر جيداً سؤالاً قوياً جاء من فتاة محجبة توحي لهجتها البريطانية أنها من الجيل الثاني أو الثالث في المملكة المتحدة. قالت لها الفتاة السمراء: "تقولين أننا مهمّون، نحصل على شهادات ونتفوق دراسياً، وندير شركات ونكسب النقود وندفع الضرائب.  نحصل هكذا على الأهمية في هذا المجتمع ويتم تقبّلنا والاعتراف بنا. لكن ماذا لو كنا أقل بريقاً؟ ماذا لو كنا مرضى أو ذوي احتياجات خاصة؟ لو كان لدينا مشاكل تمنعنا من أداء أدوارنا بكفاءة وفعالية؟
هل يخسر مرضانا احترامهم ومكانتهم في هذه المنظومة؟ هل ينظر لمن هم "عاديون" منا على أنهم عبء؟ هل حبنا وتقبّلنا له شروط؟"

لم تكن تبحث تلك الفتاة الجامعية عن أجوبة، لكنها نجحت في أن تجعل جميع الحاضرين والحاضرات يفكرون.
وسؤالها بالمناسبة لا يقتصر على المشهد السياسي البريطاني وأوضاع المهاجرين واللاجئين في القسم الشمالي من العالم. يمكن إسقاطه على الكثير من الجوانب الحياتية. فالحب المشروط نوع سيء من الحب. هل ستحبني فقط إن كنت جميلة؟ هل سأكون مهمة فقط إن كنت بصحة جيدة؟ إذا مرضت أو هرمت فما هو مصيري في هذه الحياة؟ هل سأهمّش؟ سيتركني أقرب الناس إلي؟ هل بعض الناس مثل الأخطاء المصنعية التي تحتاج إلى إتلاف في بضاعة منتجة في مصنع ما؟

"الحب غير المشروط" مصطلح متداول في الأدب والإعلام، ويستخدم في سياق رومانسي للدلالة على مقدار كبير من الحب بلا قيود ولا شروط للمحبوب. لكن لنفكر قليلاً في هذا المصطلح وماذا يعني.

حب غير مشروط هو أن تقدم الحب ولا تتوقع أن يأتيك بنفس الشكل والمقدار الذي قدمته، وأن تستمر في تقديمه حتى وأنت تعرف ذلك.
حب أصيل لا تقدمه ليجعلك تشعر بشعور جيد تجاه نفسك، فأنت تقدمه لأنك تشعر أنه واجبك وهو ما يمليه عليك ضميرك. وهو نوع متطلب من الحب تبذل فيه مجهوداً وتحتاج فيه للصبر وطول النفس.
صورة غير جذابة وغير رومانسية من الحب، تقدمها لطرف آخر؛ طرف ضعيف، أو مريض، أو قبيح (في نظر الآخرين)، أو مهمّش وقد يكون غير مرئي للكثيرين. لكنك لا تبالي، ولا يعنيك أي من ذلك.

أعلم أن هناك الكثيرون ممن يتحسسون من عقد مقاربات بين البشر والحيوانات، لكن تحمّلوني قليلاً.



لدينا في المشهد العائلي قطة جميلة عيناها خضراوان ولوزيتان اسمها زيتونة. لكن زيتونة فقدت الكثير من جمالها على مدى الأسبوع الماضي بسبب مشاكل صحية سببت لها حكة دائمة وجعلتها تشعر بالتعب وتفقد الكثير من الشعر حتى أن جلدها حول الرقبة أصبح مكشوفاً تماماً.


زيتونة اختارت عائلتنا وقررت أنها ستصبح جزءاً منها.
جملة تبدو مضحكة وغير واقعية، أليس كذلك؟ لكن هذا ما حدث.

رأيناها في محيط المنزل قبل حوالي ٤ سنوات وكانت صغيرة نسبياً. أقدّر أن عمرها لم يتجاوز الأربعة أشهر في ذلك الوقت. بدت وكأنها تتردد على المنزل وتتعرف إلينا عن بعد، حتى قامت بخطوة جريئة أفصحت فيها عن مشاعرها تجاهنا ونواياها بالانضمام إلى عائلتنا، فأحضرت لنا فأراً!
أذكر أني فتحت باب المنزل خارجة لأراها أمامي وفي فمها فأراً اصطادته. حصل اتصال بصري قوي بيننا لم يقطعه صرختي المتفاجئة والمشمئزة من منظر الفأر في فمها. أغلقت الباب وناديت أمي بسرعة لترى هول ما رأيته. وبعد بضعة دقائق فتحنا الباب أنا وأمي لنراها متسمّرة على نفس الوقفة وفي عينيها ذات النظرة الواثقة.

عرفت بعد فترة أن تلك كانت رسالة من زيتونة، ففي عالم القطط إحضار ما تم صيده هدية تقدمه القطط للإنسان لتثبت أنها صيادة ماهرة. زيتونة أحضرت هديتها كعربون صداقة ودليل على أنها ستكون عضواً فعالاً في العائلة. 

منذ أن كنا صغاراً كنا نحلم باقتناء حيوان أليف، لكن أبي لم يكن يحبّذ ويقول لنا: "إما أنا أو هي (القطة) في هذا البيت". لكن زيتونة بتلك الحركة النبيلة خففت من حدية عبارات أبي الدراماتيكية، فسمح لنا بإطعامها قائلاً أنه من المفيد أن تكون في الحديقة "لتنظيف" المحيط من القوارض والحشرات. 
وهكذا، رويداً رويداً، بدأت زيتونة تتواجد في حياتنا، من قطة في الحديقة إلى قطة داخل المنزل في "الشتاء فقط"، إلى فرد من أفراد العائلة. كنا نخشى عليها من برد المربعانية، وشيئاً فشيئاً فرضت وجودها وأصبحت قطة "برّه وجوّه"، لذلك فضّلت أمي أن نعطيها مطعومات وقائية وأن نأخذها إلى الطبيبة البيطرية بين الحين والآخر. 

وحتى بعد هذه المقدمة التاريخية عن قصة تعارفنا مع زيتونة يستفزّني كثيراً أن يطلق عليها "بسّة شارع"، والأنكى عندما يقول أحدهم "آه، بس زيتونة بسّة عادية، مش بسّة عالم وناس".
جملة مستفزّة توحي - على الأقل بالنسبة إلي - بوجود مشاكل طبقية عميقة لدى المتكلم/ة.

 وهنا تأتي الفكرة الأساسية لهذه التدوينة: ما الذي يحدد "قيمة" ما/من هم في حياتنا؟ هل كنت سأحب زيتونة لو أنها قطة سيامية أو شيرازية؟ لو دفعت لاقتنائها بضعة مئات من الدنانير، هل ستكون قيمة حياتها أعلى؟ هل مشاكلها الصحية ستكون أكثر أهمية وخطورة؟ قطعاً لا.

أتمنى أن تشفى زيتونة وأن تستعيد عافيتها وشعرها. لكن حتى ذلك الحين من اللطيف مراقبة علاقتها بأخي عبد الحميد. تفاهم متبادل قائم على النظرات والابتسامات. أزعم أن ذلك شكل من أشكال الحب الحقيقي وغير المشروط.
حميد لا يكترث بشكل زيتونة المتدهور أو حالتها المتعبة، يفهم نظراتها وما تحتاجه فيطعمها ويقدم لها الماء ويستجيب لها بكل حب. وزيتونة لا يعنيها بتاتاً أن حميد لا يتحدث معها أو يصدر أصواتاً لها أو يرتّب عليها، فتجلس بجانبه وتحوم حوله.
بلا شروط أو قيود؛ كل يقدم ما يستطيع للآخر حسب استطاعته، زيتونة تخرخر لحميد وحميد يأنس بزيتونة ويبتسم لها. وفي هذا الأثناء أحاول جاهدة أن أتعلم منهما الحب غير المشروط، وأن أبادلهما ما يعطياني إياه بسخاء حسب استطاعتي المتواضعة.

موسم العناقيد الليلكية


تردد كثيراً في الآونة الأخيرة أن ربيع هذا العام مميز. الحمد لله، كانت أمطاره وفيرة ودرجات الحرارة لا تزال أقل من معدلاتها السنوية. وبسبب تلك الظروف المتعلقة بالحرارة وتوافر المياه؛ فإن النباتات تتأثر بشكل مباشر. ولذلك فقد كان الغطاء النباتي من الأعشاب والأزهار البرية متنوعاً ودام أطول من المعتاد.

وقد تكون برودة هذا الشتاء ساهمت في أداء لافت لشجيرات الويستريا المزهرة. أراقبها في كل عام، لكنها فعلاً مميزة هذا الموسم. كثيفة وغنية ومتدلية في كل مكان!

الآتي صور التقطتها خلال الأسبوع الماضي من أحياء مختلفة في مدينة عمان:










كلمات وصور زلقة


يقول عبد الرحمن منيف في مقدمة كتابة "سيرة مدينة - عمان في الأربعينات" :

"إن الكتابة عن مدينة الماضي التي يحبّها الإنسان تحول هذه المدينة إلى كلمات، والكلمات ذاتها، مهما كانت بارعة، زلقة، خطرة، ماكرة، وغالباً لا تتعدى أن تكون ظلالاً باهتة لحياة، أو في أحسن الحالات ملامسة لها من الخارج، أو مجرد اقتراب، علماً أن الحياة ذاتها كانت أغنى، أكثر كثافة، ومليئة بالتفاصيل التي يصعب استعادتها مرة أخرى."


تحدث منيف هنا عن الكلمات، أن الكلمات مهما كانت بارعة فهي لن تنجح - في رأيه - في أن تعكس الصورة الحقيقية للحياة "الأغنى والأكثر كثافة والمليئة بالتفاصيل". جعلني هذا الاقتباس أتأمل لبرهة من الوقت، فما يراه عبد الرحمن منيف في الكلمات، أراه بصورة مغايرة تماماً في الصور. فالتصوير كنوع من أنواع التوثيق في متناول يد الجميع. في وقتنا الحالي يمتلك المعظم أدوات تتفاوت في الاحترافية لكنها تؤدي الغرض سواء لالتقاط صور شخصية، أو صور للمدن والعمارة والمناظر الطبيعية وحتى مقاطع فيديو تحتوي على الكثير من التفاصيل والحركة والأصوات.

يعيب البعض بهرجة ذلك المحتوى الزخم التي يُتناقل بكثرة على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، ويخضع في كثير من الأحيان إلى التحرير والمؤثرات وزيادة تشبع اللون أو التحكم بالإضاءة. حتى أن هناك تطبيقات تتيح إجراء عمليات تجميل سريعة للوجوه، فتُزال البثور والهالات السوداء ويُصغّر الأنف وتنفخ الشفاه وتصبح البشرة مخملية بكبسة زر.

وقياساً على نظرة منيف؛ تقع تلك الصور لأن تكون "ماكرة" أيضاً وألا تعكس الصورة الحقيقية لكن بالعكس. ففي الوقت الذي كانت فيه كلمات (منيف) تفشل في التعبير عن واقع غني وكثيف، تعكس كثير من صورنا صورة أكثر جمالاً وأكثر كثافة لواقع باهت و رتيب أقل مثالية وأقل بريقاً مما هو عليه على أرض الواقع.


هل نحن معنيّون بتوثيق القبح؟ هل علينا أن نتجاهل الجمال من حولنا؟ قطعاً لا.

سنلتفت في كل ربيع إلى جمال الطبيعة، وسيسحرنا بياض الثلج في كل شتاء، سنضحك لرؤية أعين الأطفال اللامعة، وسنبقى دائماً نلتقط صوراً في المناسبات والأعياد عندما نكون في أحسن هندام لنوثق تلك الأيام التي نكون فيها حسان المظهر.

لكن ما علينا الانتباه إليه - برأيي - ألا نبالغ. فلا نتكلف عناصر دخيلة على صورنا، أو نفتعل ضحكات غير حقيقية أو نشعر أن علينا دائماً أن نكون مثاليين وجميلين على الدوام. أن نحتاط من تلك الصور "الزلقة"، على غرار الكلمات التي تحدث عنها عبد الرحمن منيف، التي تجعلنا ننزلق أحياناً لفخ المقارنة بما هو غير واقعي.

سواء كان هذا المحتوى للإنتاج أو الاستهلاك (بما أن المعظم يقوم بالدورين بالتزامن) أعتقد أن علينا الالتفات لتفاصيل صغيرة تشعرنا ومن حولنا بالسعادة، تفاصيل في متناول يد المعظم، ولا تجرح من يفقدها أو تشعره بالحرمان. محتوى يساعدنا على التصالح مع الواقع البسيط، والاحتفاء بالعيش الهادئ، يقدّر القيم المعنوية ويتجاوز الاستهلاك. صور ومنشورات واقتباسات تلهم من حولنا، وتعطيهم شعوراً جيداً أو تدفعهم إلى التفكير، أو تمدّهم بجرعة من التحدي.  

يومي في ثوانٍ


بدأت في ٢٧ من كانون الأول العام الماضي بتصوير سلسلة من اليوميات المصورة جمعتها في وسم "يومي في ثواني". وهي عبارة عن مجموعة من مقاطع الفيديو التي لا تتعدى ال١٥ ثانية أجمع فيها مقاطع قصيرة لتوثيق لمحات من يومي. ففي كل يوم أحاول التقاط مقاطع فيديو قصيرة جداً، تتراوح بين الثانية الواحدة والخمس ثوانٍ، ثم أحررها وأقصرها وأجمعها بشكل متسلسل بحيث يكون مجموع الثواني خمس عشرة ثانية.
شاركت تلك المقاطع اليومية بمثابرة وانتظام على مدى الثلاثة أشهر الماضية على حسابي في انستجرام. كانت نشاطاً إبداعياً يومياً، دفعني لصناعة محتوىً بشكل شبه يومي. كان ممتعاً وحظي بتفاعل واسع من قبل الأهل والأصدقاء.

لكني في هذا الأسبوع، ومع اقتراب شهر رمضان المبارك، بت أفكر في استمرارية هذا المشروع الشخصي. بعد ٣ أشهر، أستطيع أن أشارك بعض الانطباعات والدروس المستفادة من التجربة.


الجوانب اللطيفة في التجربة:

- ملاحظة تفاصيل يومية بسيطة
لأني كنت بحاجة إلى لقطات منوعة لصناعة اليوميات المصورة، كان علي ملاحظة تفاصيل صغيرة وتوثيقها. ساعدني ذلك على رؤية قطرات المطر على حوض النباتات، أو وضعية ظريفة لأحد القطط، وحركة الناس في شارع يعجّ بالحياة والمارة، ولون السماء وقت الغروب. كثير من تلك التفاصيل كنت لأغفل عنها في خضم الحياة اليومية لولا تلك العدسة المتفحصة التي كانت تيقّظني وتلزمني بإنتاج مقطع فيديو في آخر اليوم.
تجدر الإشارة إلى أن الأيام التي كانت تلقى تفاعلاً أكثر، هي تلك الأيام الهادئة التي كنت أقضيها في المنزل. على خلاف ما كنت أتوقع، فإن الأيام الحافلة بالأحداث أو الرحلات لم تكن تشد الانتباه بقدر ما كانت تفعل الأيام بطيئة الوتيرة. بعد شيء من التفكير يبدو ذلك منطقياً، أليس كذلك؟ من بحاجة لرؤية يوم استثنائي شيّق لشخص آخر في مدينة أخرى لا يستطيع هو/هي الذهاب إليها والقيام بأنشطة مشابهة؟
أظن أننا نميل لما يشبهنا ويشبه حياتنا ونتواصل معه. أؤمن بأن لدى الجماهير المتلقية على منصات التواصل الاجتماعي فراسة لا يستهان بها، وقدرة على الإحساس بالمحتوى المتكلف المتقن المبالغ بصنعه من جهة، وذلك العفوي الذي صُنع بتلقائية ودون رغبة بالاستغراض من جهة أخرى. كثيرون - وأنا شخصياً منهم- تلفت انتباههم تفاصيل الحياة اليومية العادية الرتيبة الصغيرة. لذلك كنت أسعد دائماً بالتعليقات والمشاركات أن مقاطع "يومي في ثوانٍ" شجعت البعض على ملاحظة التفاصيل اليومية الصغيرة والاستمتاع بها بشكل أكبر. 


- تقدير الطقوس العائلية والاجتماعية:
 الاجتماع على مائدة الفطور، أو أحاديث فنجان القهوة، أو الكنكنة في الشتاء ، وغيرها من الطقوس اليومية التي كنت أظن أنها اعتيادية للملايين من الناس،  أصبحت أراها من منظور آخر. 
ذكرني التفاعل والتعليقات بأن الكثير من الأمور ليست تحصيلاً حاصلاً، وأنها من النعم المغبون بها كثير من الناس.
كنت أتلقى العديد من التعليقات الدافئة المليئة بالنوستالجيا لأيام مضت، أو لمغتربين مشتاقين للمّة العائلية. وحتى أني تلقيت رسائل مؤثرة من أصدقاء على انستجرام كانت تذكرهم مقاطع الفيديو تلك بأيام سوريا التي اضطروا لمغادرتها، لبيت الجد، والاجتماعات العائلية. كنت أشعر بالغصّة والخجل من تلك الرسائل، وكنت أخاف أن تبعث تلك المقاطع المرارة والحزن على أيام مضت لدى الكثيرين. إلا أن تلك الرسائل غالباً ما كانت تصاحبها كلمات تشجيع لطيفة تطلب الاستمرار في صنع محتوى مشابه، حيث أنها تذكر مرسليها بذكريات جميلة.

- صناعة المحتوى كنشاط تشاركي
من اللطيف أن يشترك أفراد العائلة والأصدقاء في صناعة تلك المقاطع. كنت أركز دائماً على عفوية اللقطات وأن تكون مصورة بتلقائية وبنفس اليوم.  لكني كنت أحتاج للمساعدة في أحيانٍ كثيرة،  كتثبيت كاميرا الهاتف، أو تصوير لقطة ما (كإزالة ورقة الروزنامة اليومية التي يساعدني فيها أخي عبد الحميد)، أو الأفكار التي كان يقترحها بمرح الأقارب والأصدقاء. خالتي وبنات خالتي مثلاً كانوا يتعاونون دائماً ويذكروني بحماسة  بتصوير لقطة ما من زياراتنا العائلية، وكانوا متعاونين جداً ويساعدونني في الإضاءة و زوايا التصوير. عمتي أيضاً كانت شديدة الصبر، وتحملتني بكل حبّ في أيام عديدة كذلك اليوم الذي صورتها فيه وهي تصنع الكراوية أو في أحد أيام الجُمع وهي تسكب المنسف (عوضاً عن مساعدتها). خلقت مقاطع "يومي في ثوان" شيئاً من المرح، وأضحت نشاطاً تفاعلياً يشترك فيه الحاضرون في تلك الأيام، ويترقبونه نهاية اليوم ليروا الثانية التي ظهروا فيها. 

هناك أيضاً بُعد تفاعلي تشاركي آخر، وهو اهتمام الكثيرين بتجربة التوثيق اليومية، وقيامها بعمل نسخهم الخاصة من "يومي في ثوانٍ". شاركني العديدون مقاطع جميلة قاموا بإنتاجها لتوثيق رحلات أو أيام معينة. كنت أسعد كثيراً عندما يرسلونها لي بشكل خاص أو يشاركونها على الوسم (#يومي ـ في ـ ثواني). ساعدتني تلك المشاركات الجميلة من حول العالم، ومن الوطن العربي تحديداً، على التعرف على أصدقاء انستجراميين لم أرهم يوماً وجهاً لوجه.  كانت تأخذني إلى مدنهم، أشرب معهم قهوة الصباح، وأستقل معهم المواصلات، وأشتري معهم الخضار الموسمية من الأسواق الشعبية، وأرى العالم من خلال أعينهم. الحياة في الكويت، والدار البيضاء، والقاهرة وغيرها من المدن التي لم أذهب إليها (بعد :))، حياة حقيقية محلية أصلية بعيون أصحابها. 

- الالتزام والمواظبة
عند النظر بأثر رجعي إلى الثلاثة أشهر الماضية، أشعر بالرضى والسعادة لتمكني من الالتزام بذلك المشروع الشخصي والمواظبة عليه يومياً. "يومي في ثوانٍ" كان بمثابة دورة شخصية مكثفة لتطوير مهارات التصوير وتحرير مقاطع الفيديو ومشاركة محتوى بشكل منتظم على حسابي في انستجرام.


الجوانب السلبية في التجربة:

- الاضطرار إلى إبقاء الهاتف في متناول اليد طوال الوقت
بعض اللقطات مخطط لها، والبعض الآخر عفويٌ لا نعرف متى يحصل. لذلك كان لا بد من إبقاء الهاتف قريباً، ومشحوناً، وبذاكرة كافية لتخزين مقاطع الفيديو الكثيرة، غير تحرير المقاطع مساء كل يوم. كل ذلك كان مجهوداً لا بأس به. بسبب ذلك أشعر أني بحاجة إلى استراحة (فأنا أشتاق لحميتي الإلكترونية)، استراحة من التصوير ومن وهج الشاشات ومن بعض التشتت هنا وهناك.

- الاختزال
اليوم ٢٤ ساعة، ١٤٤٠ دقيقة، ٨٦٤٠٠ ثانية. نحن نقتطع من تلك ٨٦٤٠٠ ثانية ١٥ ثانية فقط لنوثق كيف كان ذلك اليوم. بالتأكيد لن نستطيع عكس صورة واقعية لمجريات الأحداث السلبية والإيجابية. سنميل إلى توثيق ما هو جميل منها، ولذلك من السهل الوقوع في فخ الأيام المثالية بالغة السعادة التي ليس لها وجود على أرض الواقع. لذلك فإن واقعية ذلك محتوى مشكوك بأمرها. 


ختاماً، لا أدري إن كنت سأكمل صناعة تلك المقاطع أو لا. ربما أشاركها بين الحين والآخر، أو ربما ألزم نفسي ثانية بها استكمالاً للنشاط التوثيقي طالما أن لدي القدرة والوقت لذلك. أو ربما يجب أن استحدث فكرة إبداعية أخرى ألزم نفسي بها الفترة القادمة. لست أدري بعد. 
Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...