مشاعر بلا إفراط

في آخر رواية قرأتها لدوستويفسكي يقول فيها على لسان الشخصية الرئيسية: "إن الناس السعداء لا يطاقون في بعض اللحظات". أعرف أنه من الغريب أن تستوقفني جملة حاقدة كهذه، لكنهم يقولون أننا نميل لقراءة ما يتوافق مع أفكارنا ومعتقداتنا ومشاعرنا. وتلك الجملة في تلك اللحظة جعلتني أبتسم. أذكر أنه قبل عدة سنوات، وفي أحد الأماكن التي عملت فيها، كان لدينا زميل مفرطٌ في التفاؤل والإيجابية. كان متقمصاً لشخصية مدرب تنمية بشرية على الدوام - قبل أن يتحول ذلك المصطلح من مهنة مؤثرة إلى نصب واحتيال أو صفة للتندر والسخرية. كنت أجده في قرارة نفسي مزعجاً، واحتفظت برأيي لنفسي من باب حفظ اللسان والزمالة. لكن مع الأيام تبين أنه لم يكن يحظى بشعبية عالية في الفريق لنفس الأسباب. ليس الأمر أننا كنا مجموعة موظفين مكتئبين وحانقين على الحياة، فقد كنا نحب الأشخاص الإيجابيين والمتفائلين، لكن باعتدال وبدون تصنع دائم.

يوضع صديقنا المتفائل على المحك في أحد الأيام ويحدث خلاف مع أحد زملائه فيخلع قناعه "السعيد جداً" ونرى منه وجهاً آخر. وجهٌ عدواني وفظ كان مكبوتاً ومقموعاً لأشهر. كان الأمر مدعاة للتأمل حقاً. المثير للاهتمام أن ذلك لم يكن مفاجئاً لكثير من أعضاء الفريق. شيء ما في سعادته الدائمة لم يبدُ سليماً أو صحياً، ولحظة الانفجار كانت متوقعة عاجلاً أم آجلاً.

نحن في النهاية بشر، وإذا كنا سنعيش هذه الحياة فلا بد أن نمر بالكثير من المشاعر المتناقضة. الخوف والطمأنينة، والألم والسعادة، والسكينة والضجر، والفرح والحزن. ربما علينا - كما تعلمت من ذلك الزميل - ألا نتصنع مشاعر دون أخرى، وأن لا نبالغ في إظهار ما نشعر به أو نتصنع ما نظن أن علينا أن نشعر به. من الصواب أن تأخذ كل تجربة وما يرافقها من مشاعر وقتها (وأضيف من تجربتي الشخصية: خصوصيتها). يبدو أنه لن نصل للاطمئنان والسعادة حتى نتقبل الألم والحزن أولاً ونتعافى منه ثانياً. كل تلك المشاعر، الجميلة منها والمؤلمة، لا مفر منها. لكن العبرة في النهوض مجدداً والمقاومة من جديد.

وبالحديث عن المقاومة، صادفت نموذجاً حيّاً منذ عدة أيام عندما خرجت للمشي أنا وأخي عبد الحميد في الحي. الطبيعة ملهمة حقاً في ترميم نفسها والتأقلم مع ما حولها.






هناك 9 تعليقات:

  1. والله إنه ليُبهجني عودة روان إلى التدوين! 😁🎉

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً شكراً نسرين :) شاكرة لمتابعتك وسعيدة بمرورك وتعليقك
      دمتِ بخير وسعادة دائماً

      حذف
  2. روعة ياروان كأنكِ تعبري عما يدور فى داخلي من تأملات حول هذه الفترة والتوصيات بإن نكون متفائلين وإيجابيين وإلخ.

    ردحذف
    الردود
    1. تخاطر أفكار :)
      سعيدة بك ايناس
      أتمنى أن تكوني أنتِ ومن تحبين بأحسن حال

      حذف
  3. اشتقنا لكلماتك روان :)
    شكرًا لتأملاتك الثرية
    رزقكِ الله السعادة والخير💛

    ردحذف
    الردود
    1. أجميعن إن شاء الله
      شكراً نوار
      منذ فترة طويلة لم أدوّن فعلاً

      حذف
  4. ههههه أعرف الشعور! الايجابية المفرطة غير محببة بسبب ارتباطها بالكذب او الخداع.
    أشعر ان الاصحاب الايجابيين بحق -غير المتصنعين بذلك- يشعرون بكل المشاعر لكن قد تختلف مصطلحاتهم او سبب الحديث عن موضوع سلبي معين, فلا يكون الحديث معهم مزعجا أو مصطنع.
    ملاحظة: سعدت كثيرا برؤية تدوينة جديدة!! دائما اتفقد مدونتك للتأكد أنو ما راح علي اشي :) :)

    ردحذف
    الردود
    1. فرح أظن أنك من الأشخاص الإيجابيين السعيدين بدون تلكف أو تصنع الذين أعرفهم:) وصراحة .. ما في منك! شاكرة لمرورك دائماً - خصوصاً وأني لم أكن نشيطة كثيراً في التدوين

      حذف

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...