حب أليف غير مشروط

في العام الذي كنت أدرس فيه في لندن، كان هناك انتخابات نيابية في بريطانيا. وكجزء من حملات الأحزاب المختلفة جاءت مندوبة من حزب المحافظين إلى حفل إفطار قريب من الجامعة التي كنت أدرس فيها. المندوبة البريطانية من أصول هندية جاءت لتخاطب مجموعة من "الأقليات المسلمة" الميالين لليسار لتحثهم على إعطاء أصواتهم لحزبها اليميني. كانت فحوى كلمتها متمركزة حول أهمية الأقليات المسلمة في المجتمع البريطاني وحول مشاركتهم الفاعلة اقتصادياً. أشارت إلى شخصيات بريطانية مسلمة لامعة وثرية ومشهورة وركّزت على أنهم استغلوا الفرص التي قدمتها لهم تلك البلاد، وأكدت على أهمية تواجدهم - كمجتمع مسلم - في المقدمة.

أذكر جيداً سؤالاً قوياً جاء من فتاة محجبة توحي لهجتها البريطانية أنها من الجيل الثاني أو الثالث في المملكة المتحدة. قالت لها الفتاة السمراء: "تقولين أننا مهمّون، نحصل على شهادات ونتفوق دراسياً، وندير شركات ونكسب النقود وندفع الضرائب.  نحصل هكذا على الأهمية في هذا المجتمع ويتم تقبّلنا والاعتراف بنا. لكن ماذا لو كنا أقل بريقاً؟ ماذا لو كنا مرضى أو ذوي احتياجات خاصة؟ لو كان لدينا مشاكل تمنعنا من أداء أدوارنا بكفاءة وفعالية؟
هل يخسر مرضانا احترامهم ومكانتهم في هذه المنظومة؟ هل ينظر لمن هم "عاديون" منا على أنهم عبء؟ هل حبنا وتقبّلنا له شروط؟"

لم تكن تبحث تلك الفتاة الجامعية عن أجوبة، لكنها نجحت في أن تجعل جميع الحاضرين والحاضرات يفكرون.
وسؤالها بالمناسبة لا يقتصر على المشهد السياسي البريطاني وأوضاع المهاجرين واللاجئين في القسم الشمالي من العالم. يمكن إسقاطه على الكثير من الجوانب الحياتية. فالحب المشروط نوع سيء من الحب. هل ستحبني فقط إن كنت جميلة؟ هل سأكون مهمة فقط إن كنت بصحة جيدة؟ إذا مرضت أو هرمت فما هو مصيري في هذه الحياة؟ هل سأهمّش؟ سيتركني أقرب الناس إلي؟ هل بعض الناس مثل الأخطاء المصنعية التي تحتاج إلى إتلاف في بضاعة منتجة في مصنع ما؟

"الحب غير المشروط" مصطلح متداول في الأدب والإعلام، ويستخدم في سياق رومانسي للدلالة على مقدار كبير من الحب بلا قيود ولا شروط للمحبوب. لكن لنفكر قليلاً في هذا المصطلح وماذا يعني.

حب غير مشروط هو أن تقدم الحب ولا تتوقع أن يأتيك بنفس الشكل والمقدار الذي قدمته، وأن تستمر في تقديمه حتى وأنت تعرف ذلك.
حب أصيل لا تقدمه ليجعلك تشعر بشعور جيد تجاه نفسك، فأنت تقدمه لأنك تشعر أنه واجبك وهو ما يمليه عليك ضميرك. وهو نوع متطلب من الحب تبذل فيه مجهوداً وتحتاج فيه للصبر وطول النفس.
صورة غير جذابة وغير رومانسية من الحب، تقدمها لطرف آخر؛ طرف ضعيف، أو مريض، أو قبيح (في نظر الآخرين)، أو مهمّش وقد يكون غير مرئي للكثيرين. لكنك لا تبالي، ولا يعنيك أي من ذلك.

أعلم أن هناك الكثيرون ممن يتحسسون من عقد مقاربات بين البشر والحيوانات، لكن تحمّلوني قليلاً.



لدينا في المشهد العائلي قطة جميلة عيناها خضراوان ولوزيتان اسمها زيتونة. لكن زيتونة فقدت الكثير من جمالها على مدى الأسبوع الماضي بسبب مشاكل صحية سببت لها حكة دائمة وجعلتها تشعر بالتعب وتفقد الكثير من الشعر حتى أن جلدها حول الرقبة أصبح مكشوفاً تماماً.


زيتونة اختارت عائلتنا وقررت أنها ستصبح جزءاً منها.
جملة تبدو مضحكة وغير واقعية، أليس كذلك؟ لكن هذا ما حدث.

رأيناها في محيط المنزل قبل حوالي ٤ سنوات وكانت صغيرة نسبياً. أقدّر أن عمرها لم يتجاوز الأربعة أشهر في ذلك الوقت. بدت وكأنها تتردد على المنزل وتتعرف إلينا عن بعد، حتى قامت بخطوة جريئة أفصحت فيها عن مشاعرها تجاهنا ونواياها بالانضمام إلى عائلتنا، فأحضرت لنا فأراً!
أذكر أني فتحت باب المنزل خارجة لأراها أمامي وفي فمها فأراً اصطادته. حصل اتصال بصري قوي بيننا لم يقطعه صرختي المتفاجئة والمشمئزة من منظر الفأر في فمها. أغلقت الباب وناديت أمي بسرعة لترى هول ما رأيته. وبعد بضعة دقائق فتحنا الباب أنا وأمي لنراها متسمّرة على نفس الوقفة وفي عينيها ذات النظرة الواثقة.

عرفت بعد فترة أن تلك كانت رسالة من زيتونة، ففي عالم القطط إحضار ما تم صيده هدية تقدمه القطط للإنسان لتثبت أنها صيادة ماهرة. زيتونة أحضرت هديتها كعربون صداقة ودليل على أنها ستكون عضواً فعالاً في العائلة. 

منذ أن كنا صغاراً كنا نحلم باقتناء حيوان أليف، لكن أبي لم يكن يحبّذ ويقول لنا: "إما أنا أو هي (القطة) في هذا البيت". لكن زيتونة بتلك الحركة النبيلة خففت من حدية عبارات أبي الدراماتيكية، فسمح لنا بإطعامها قائلاً أنه من المفيد أن تكون في الحديقة "لتنظيف" المحيط من القوارض والحشرات. 
وهكذا، رويداً رويداً، بدأت زيتونة تتواجد في حياتنا، من قطة في الحديقة إلى قطة داخل المنزل في "الشتاء فقط"، إلى فرد من أفراد العائلة. كنا نخشى عليها من برد المربعانية، وشيئاً فشيئاً فرضت وجودها وأصبحت قطة "برّه وجوّه"، لذلك فضّلت أمي أن نعطيها مطعومات وقائية وأن نأخذها إلى الطبيبة البيطرية بين الحين والآخر. 

وحتى بعد هذه المقدمة التاريخية عن قصة تعارفنا مع زيتونة يستفزّني كثيراً أن يطلق عليها "بسّة شارع"، والأنكى عندما يقول أحدهم "آه، بس زيتونة بسّة عادية، مش بسّة عالم وناس".
جملة مستفزّة توحي - على الأقل بالنسبة إلي - بوجود مشاكل طبقية عميقة لدى المتكلم/ة.

 وهنا تأتي الفكرة الأساسية لهذه التدوينة: ما الذي يحدد "قيمة" ما/من هم في حياتنا؟ هل كنت سأحب زيتونة لو أنها قطة سيامية أو شيرازية؟ لو دفعت لاقتنائها بضعة مئات من الدنانير، هل ستكون قيمة حياتها أعلى؟ هل مشاكلها الصحية ستكون أكثر أهمية وخطورة؟ قطعاً لا.

أتمنى أن تشفى زيتونة وأن تستعيد عافيتها وشعرها. لكن حتى ذلك الحين من اللطيف مراقبة علاقتها بأخي عبد الحميد. تفاهم متبادل قائم على النظرات والابتسامات. أزعم أن ذلك شكل من أشكال الحب الحقيقي وغير المشروط.
حميد لا يكترث بشكل زيتونة المتدهور أو حالتها المتعبة، يفهم نظراتها وما تحتاجه فيطعمها ويقدم لها الماء ويستجيب لها بكل حب. وزيتونة لا يعنيها بتاتاً أن حميد لا يتحدث معها أو يصدر أصواتاً لها أو يرتّب عليها، فتجلس بجانبه وتحوم حوله.
بلا شروط أو قيود؛ كل يقدم ما يستطيع للآخر حسب استطاعته، زيتونة تخرخر لحميد وحميد يأنس بزيتونة ويبتسم لها. وفي هذا الأثناء أحاول جاهدة أن أتعلم منهما الحب غير المشروط، وأن أبادلهما ما يعطياني إياه بسخاء حسب استطاعتي المتواضعة.

هناك 15 تعليقًا:

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. لك مني كل الحب الغير مشروط ��
    مدونة رائعة

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً جزيلاً! سعيدة أن التدوينة أعجبتك

      حذف
  3. لطييف
    الله يشفيها زيتونة و تضل مزينة حياتكم D:

    ردحذف
  4. سلامة زيتونة، إحنا بنحبها لأنها وحدة منّا، مش بسة أرستقراطية معروف جدها السابع.

    ردحذف
    الردود
    1. الله يسلمك تقوى :)
      عن جد زيتونة منا وفينا

      حذف
  5. الموضوع و السرد جميل جداً و برأيي؛ لكان أجمل لو تم تلخيص الفكرة في الخاتمة.. بالتوفيق

    ردحذف
  6. رائعة هذه التدوينة يا روان, دخول زيتونة للعائلة و علاقتها بعبود. رائع! حب غير مشروط نقي!
    ان شاء الله زيتونة تتعافى و تعود لها صحتها من جديد! :) و كل عام و انتي و العائلة بكل خير
    و سلامة و سعادة يا رب! 💓

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً فرح! :)
      كل عام أنتم بألف خير و تقبل الله طاعاتكم

      حذف
  7. تدوينة جميلة بحق
    :)

    المقاربة ، قصة زيتونة وقرب بعض ملامح القصة من اقتنائنا ل(سمسم) رمضان العام الفائث ، والأسئلة التي علينا واجب لا فقط أن نسألها بل أن نجاهد لإرساء إجابات وتدعيم تلك الإجابات لتستمر لأنها من نسيج الحياة!

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً هيثم :) سعيدة انه التدوينة أعجبتك

      في صديقة الي محبة للقطط بتقول انه البسابيس "بيختاروا البشر"
      كيف احنا بنقول "بسّتنا" هم بيقولوا "إنساني" :)) فكرة طريفة بس لقيتها متناسبة مع طبيعة القطط وشخصياتهم

      حذف
    2. ذكرتيني بهيام اللي كانت تقول إنو البسس بيظل يتلمسوا ويقربوا كثير على أصحابهم مشان تعلق رائحتهم فيهم ويعرفوا كل البسس الثانية إنو هذا أو هؤلاء
      are my human
      !
      :)

      حذف
  8. Did you hear there is a 12 word sentence you can speak to your partner... that will induce deep feelings of love and impulsive appeal for you buried within his chest?

    Because hidden in these 12 words is a "secret signal" that fuels a man's impulse to love, adore and guard you with his entire heart...

    12 Words Who Fuel A Man's Desire Instinct

    This impulse is so built-in to a man's genetics that it will make him try better than before to build your relationship stronger.

    In fact, fueling this influential impulse is so mandatory to having the best ever relationship with your man that the instance you send your man one of these "Secret Signals"...

    ...You will instantly find him expose his soul and heart to you in such a way he never expressed before and he'll see you as the one and only woman in the world who has ever truly attracted him.

    ردحذف

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...