بدأت القصة باهتمامي المتزايد بالعيش البسيط والمتمهل، والذي يشجع على تخفيف الاستهلاك والتصرف بمسؤولية تجاه البيئة. الأمر الذي يتيح لنا الاستغناء عن كل ما هو فائض، ويساعدنا على الاستمتاع بما لدينا والتركيز على ما هو مهم، عوضاً عن الانشغال بشراء وتكويم أشياء لا نحتاج إليها، ويحصننا من الشعور الدائم بالنقص الذي تعززه الحملات التسويقية والإعلانات.
تعجبني فكرة التقليليّة، والتي هي جوهر العيش البسيط. خصوصاً بعد عدة تجارب تنقلت فيها بين عدة مساكن في مدن مختلفة. استشعرت وقتها أهمية الخفة، وبساطة ما نحتاج إليه فعلاً، وسهولة مراكمة الكراكيب دون أن نشعر، لتتحول بعد فترة لعبء في النقل والتخزين، وفائض يثقل علينا بالمساحة التي يشغلها وبالجهد الذي يحتاجه في إبقائه نظيفاً وصيانته والمحافظة عليه.
وفي أثناء البحث والقراءة عن الموضوع صادفت هرماً يحاكي هرم ماسلو الشهير للحاجات الإنسانية الأساسية. قامت المصممة الكندية سارة لازوريك بتعديله وتحويره وأطلقت عليه "هرم القرار الشرائي"، والذي فيه تدرج مقترح لكيفية الحصول على ما نحتاجه كالآتي:
وكان أول قرار طبقت عليه هذا الهرم الحصول على ساعة "جديدة". كنت أرتدي لفترة طويلة ساعة حصلت عليها عندما كنت في الصف الأول الثانوي بعد تحصيلي علامات جيدة. وبما أنها احتاجت إلى تغيير بطارية، فكرت أنها فرصة لاستبدالها بساعة أخرى للتجديد.
سألت أمي إن كان لديها ساعة لا تستخدمها في الوقت الحالي. فبحثنا سوية في مقتنياتها لنرى ساعة كاسيو أعاد ظهورها الكثير من الذكريات. لقطات ضبابية تشبه لقطات استرجاع الماضي في الأفلام، حيث تكون الألوان باهتة وهناك موسيقى هادئة تختلط مع أصوت الأطفال. عادت إلى ذاكرتي مشاهد لنا في مطبخنا الصغير قبل عشرين عاماً وأمي تطعم أخي الصغير بملعقة بلاستيكية خضاراً مطحونة وبعض اللبن، وعلى رسغها النحيل هذه الساعة الرقمية.
"ماما ذكرني شو قصة هاي الساعة...؟" طلبت من أمي. ابتسمت بمرح وقالت لي أنها هدية من جدي رحمه الله. أحضرها معه عندما سافر إلى اليابان في نهاية السبعينات. تقول أمي أنه لم يكن السفر متاحاً كما هو الآن، وكان يتطلب الكثير من التخطيط والجهد. لكن جدي كان دائم الرغبة بتطوير تجارته، ورأى في ذلك الوقت أفقاً واعداً في الصناعات اليابانية التي كان يستوردها لمحله في وسط البلد في شارع بسمان. وأضافت بامتنان: "كان - الله يرحمه - كريم، وكان دايماً يجيبلنا هدايا حلوة".
لكن ساعة رقمية في نهاية السبعيات؟! بالتأكيد هدية غريبة وجميلة.
تقول أمي بزهو أن الساعة كانت "صرعة". ساعة قادمة من المستقبل، يظهر التاريخ عند الضغط على زرها الجانبي وكانت "تغني" وقت المنبه. ارتدتها عندما كانت في المرحلة الثانوية ورافقتها في دراستها الجامعية، وحتى بعد أن تزوجت.
قلت لنفسي بالتأكيد لن أجد أفضل من هذه الساعة!
سألت عن ساعاتي في السوق، فقالوا لي أن هناك محل تصليحات يمكنه أن يساعدني في تغيير بطارية الساعة. ذهبت إليه وسألته إن كان يستطيع تغيير بطارية ساعة كاسيو رقمية قديمة. أخذ سؤالي عن استطاعته بشكل شخصي وكأنها إهانة. كان يجب عليّ أن أعرف أنه خارق للطبيعة ولا يُعجزه شيء. استعصى عليه فك برغي دقيق فأخرج من جيبه موساً حاداً. سألته بانفعال ماذا يفعل، فقال أنه لقِدم الساعة، عليه أن يفتحها عنوة. فأجبته بعدم موافقتي على هذه المخاطرة وطلبت منه إرجاعها لي.
نظر إلى الساعة باستخفاف وأجابني بتهكم: "عموماً البطارية بخمسة (دنانير)، والساعة الجديدة بعشرة. كبّيها واشتري واحدة جديدة أحسنلك".
شردت لبضعة ثوانٍ في اقتراحه السخيف. لكن ربما علي أن أعذره، فهو لا يعرف من أحضرها، ولا من أين أو متى، ومن لبسها ومعزتهم على قلبي.
ثم متى أصبح هذا المبدأ مقبولاً؟ "كُبّيها واشتري واحدة جديدة"...؟
تذكرت اقتباساً من مقال يستحق القراءة لإدواردو غاليانو يقول فيه:
"أنا قادم من زمن ليس ببعيد جداً، كنا نشتري فيه السلعة لتخدمنا مدى الحياة، بل لتخدم من هو قادم بعدنا، من زمن كنا نرث ونورث ساعات الحائط وأوراق الشدة وأكياس الزوادة وحتى الأواني الفخارية."
"أنا قادم من زمن ليس ببعيد جداً، كنا نشتري فيه السلعة لتخدمنا مدى الحياة، بل لتخدم من هو قادم بعدنا، من زمن كنا نرث ونورث ساعات الحائط وأوراق الشدة وأكياس الزوادة وحتى الأواني الفخارية."
نهاية القصة سعيدة، الحمد لله، بأني وجدت في نفس السوق وفي نفس الشارع ساعاتي حقيقي ورث الصنعة عن والده. عامل ساعتنا العزيزة بالاحترام الذي تستحقه وأعاد لها الحياة، وها أنا أرتديها على رسغي ببالغ السعادة، دون أن أزيد الطلب على سلعة لا أحتاجها أو أقوم بشراء شيء فائض.