لقيمات هنية


البعض يقولون عنه "غذاء للروح" وآخرون يصفونه بأنه "باعث على الراحة"؛ ما هو سر الطعام الذي يؤكل ويكون هنيئاً مرئياً في أيام لا يمكن وصفها بأنها مشرقة أو سعيدة؟ 


يقال أن هناك أنواعاً مختلفة مما يعده الناس طعاماً باعثاً على الراحة. هناك الطعام المرتبط بالنوستالجيا؛ كالبيض المقلي على طريقة الجدّة، أو طبخات مقترنة بالطقوس كأكلات اللبن في اليوم الأول من العام الهجري أو الميلادي، أو وجبات نشأنا على حبها منذ كنا أطفالاً وتشعرنا بالحنين إلى الماضي كلما تناولناها، كالأطباق التي تحضّر في المناسبات على غرار التبولة والحراق أصبعه وغيرها.


أما بالنسبة إلى البعض فإن الطعام الباعث على الراحة هو الطعام الغني بالكربوهيدات كالمخبوزات بأنواعها أو بالسعرات الحرارية و التي تكون فيه النكهات مركزة؛ الحلو حلوٌ جداً كالشوكولاته والبوظة، والمالح مملحٌ بسخاء كالبوشار والمكسرات ورقائق البطاطا، والحامض لاذع كالسكاكر المغلفة بملح الليمون.

يقال أن الراحة الناتجة عن ذلك النوع من الأطعمة لحظية، فبمجرد الانتهاء من الطعام تنتهي اللذة ويأتي محلها شعور مزعج بالامتلاء. لهذا السبب يصر الكثيرون على أن الطعام المريح هو ما كان سهل التحضير من جهة، وسهل الهضم من جهة أخرى.



عملية التحضير مهمة لأنها هي ما تجعل طعاماً ما "باعثاً على الراحة" أو كما نقول في لهجتنا "النَفَس".. فالخبرة وحدها أو التقييد بإرشادات الوصفة لا يكفي؛ نَفَس من يقوم بتحضير الطعام يحدد إن كان الطبق لذيذاً أم لا. كما يقال أن هناك أناس "نفسهم طيبة"، و أن من يأكل في بيوتهم أو من ضيافتهم "يتهنّى".


أذكر مرة أنني رافقت صديقتي وأمها إلى السوق الأسبوعي في أحد ضواحي اسطنبول في القسم الآسيوي. ونحن في السوق قالت الأم أننا قريبون من بيت أهلها وأن علينا الذهاب للسلام على الجد والجدة، وأن زيارتنا السريعة ستكون فرصة لأداء صلاة الظهر التي حان وقتها. بعد أن خلعنا أحذيتنا على الباب وقبّلنا يديّ الجدة، دخلنا على بيت صغير هادئ بنوافذ كبيرة، ستائره بيضاء ومشغولة جوانبها يدوياً بالسنارة. لم يكن الوقت قد حان لأي وجبة، فقد تخطينا الفطور ولا يزال هناك متسع من الوقت للغداء، لكن الجدة أصرت أن نتناول حساء خضراوات موسمية. قلت لها مجاملة أنه لا داعٍ لكنها قالت ببالغ الجدية: "حسائي لا يُفوّت .. حسائي فيه شفاء". ابتسمت من فكاهة الجدة، فهي مجرد شوربة خضار بالجزر المسلوق والكرفس، لكن ملامحها غدت أكثر جدية وقالت بنبرة تقارب العتاب على ابتسامتي المستهترة: "أطبخ طعامي بنية الشفاء، أريد أن أؤجر دائماً وأن يأكل من طعامي الأبرار."
كان لتلك الكلمات وقع كبير علي، جعلت من زبدية الشوربة تلك طعاماً مميزاً. استشعرت في كل لقمة بُعداً غريباً سائغاً و "مريحاً". وبقيت كلمات الجدة في بالي كلما حضرت طعاماً لعائلتي.




هناك 8 تعليقات:

  1. روان شو هاي الجدة طالعة من فلم مش معقول صار نفسي من الشوربة .... تدوينتك ذكرتني بفتة الحليب تبعت ماما ( دموع دموع )

    ردحذف
    الردود
    1. آه عن جد ما شاء الله .. الجدة كتير لزيزة. جدة امران هناء :)

      فتة الحليب :(
      #عياااط

      معلش بتهون إن شاء الله

      حذف
  2. طريقة سردك للقصة روان كانت جميلة جدا...ولوهلة حسيت عم بقرأ بكتابك المستقبلي 3>
    الصور جميلة...والطعم وصل عبر الصور :)

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً نور :) والله سعيدة جداً انه عجبتك التدوينة والصور
      كم وصفة منهم على فكرة عن طريقك ^^ من صاحبتك سعدية

      حذف
  3. الموضوع حقا جذاب واعتقد بأنني اتفق معك جدا وخصوصا طعام الجدة له نكهة لا يمكن وصفها ابدا

    ردحذف
    الردود
    1. يبدو أن هناك إجماعاً على طعام الجدات لا خلاف عليه :)

      حذف
  4. كم هي مريحة تلك الكلمات ياروان وهذه رسالة لكل امرأ عندما تدخل المطبخ أن تصنع الطعام بنية الشفاء والصحة للجميع والبر والخير في الوقت نفسه

    ردحذف
  5. برأيي الموضوع لا تقتصر فقط على النساء :)
    يستطيع الرجال إعداد طعام لذيذ أيضاً، أليس كذلك؟ ؛)
    استحضار النية أمرُ جميل بلا شك

    ردحذف

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...