من عاشر القوم


عندما تخرج من محيطك الذي ألفته وعالمك الذي اعتدت عليه، وتوضع في مواقف يكون اتصالك اللفظي فيها أضعف من الوضع الطبيعي لديك، أي عندما يكون هناك عائق لغة - بشكل أدق - يمنعك من التواصل مع من حولك دون استغراق  شيء من الوقت لتركيب جملة أو تهجئة اسم بشكل صحيح، فإنك ستتحول إلى طفل في الخامسة من عمره.

هل تتذكر نفسك وأنت في الخامسة؟

فحتى تفهم محيطك الجديد تضطر إلى الإصغاء ومراقبة أفواه الناس بصمت وهي تتكلم من حولك، تماماً كما يفعل الأطفال الصغار بنظراتهم الطويلة  المشوبة .. ليس بالبلاهة وإنما بالفضول، لعلّك تلتقط كلمة مألوفة أو كلمةً تشبه كلمة تعرفها من نفس اللغة أو لغة ثانية،  وستجد نفسك تمعن النظر بلغة الجسد لمن يتكلم معك أو مع غيرك وتصغي بتركيز إلى نبرة صوته وانفعالاته والأصوات والإيماءات التي يصدرها في حديثه وأثر ذلك على وجوه من يتكلم معهم.
 وحتى تعرف أين أنت أثناء تنقلك فإنك ستلاحظ أنك عدت لأيام الصفوف الأولى في المدرسة الأساسية تتهجأ همساً أسماء الشوارع وشواخص المرور وأسماء القرى أو محطات القطار.
وإن كنت في المزاج المناسب، في استعداد للاستقبال وقابلية للاستكشاف فإنك ستلاحظ العديد العديد من التفاصيل المهمة وغير المهمة عن بيئتك الجديدة ومحيطك الجديد.


ملاحظاتي الطفولية بعد أكثر من شهر من العيش في أحد القرى البافارية في الجنوب الألماني:

- الوضع القياسي للمياه هنا أن تكون غازية! وفي المحلات التجارية والمطاعم عندما تتطلب ماء فتوقع أن يأتيك كأساً من ما نطلق عليه نحن “صودا” لكنه بالنسبة للألمان “ماء”. 
وتستطيع أن تلاحظ أن هناك درجات من الغازات، هناك مياه بالكثير من الفقاعات ويسمّوها "كلاسيكية"، ومياه متوسطة الفقاعات ومياه بلا فقاعات. وإن تقطعت بك السبل أو كنت في مكان سكنك، تستطيع أن تشرب من صنبور الماء بكل أريحية، حتى أنها أحياناً تكون أكثر عذوبة من المياه المعبّأة تجارياً. لكن هذا لا يشمل كل مناطق ألمانيا، فبعض المناطق والأقاليم مياهها أصفى من مناطق وأقاليم أخرى.


- واستكمالاً للأوضاع القياسية؛ فالوضع القياسي للسيارات - مهما بلغت من الحداثة والرفاهية - أن تكون بناقل حركة يدوي (جير عادي) وليس أوتوماتيكياً.
كما لاحظت أن الألمان شعب مسؤول في القيادة ولديه الكثير من الانضباط والالتزام بالقواعد المرورية حتى أن هناك شواخص تفصيلية لم أرها من قبل لجميع السيناريوهات التي من الممكن أن تحدث في طريق ما وحتى أنها مفصلة حسب أيام الأسبوع.


- الدقة في المواعيد
من الطبيعي جداً عندما تحدد موعداً مع أحدهم - سواء أصدقاء أو مديرك في العمل أو زملاء - أن يخبرك أو يكتب لك في رسالة قصيرة أنه سيصل  مثلاً الساعة 14.20، وإن لم يكن متأكداً فإنه يخبرك بين 14.20 - 14.30. وفي حال كان هناك مجموعة من الناس من المتوقع أن تجد العديد قبل الموعد بدقيقة أو دقيقتين وفي حال تأخر أحدهم 5 أو 7 دقائق فلا تتفاجأ إن بدأ الآخرون بالتبرم  ومعاتبته أنه تأخر عندما يظهر.
تجدر الاشارة إلى أن أبراج الساعات منتشرة في كل مكان! في مداخل المجمعات السكنية والكنائس والمباني القديمة ومحطات القطار، والعديد منها يطن كل ربع ساعة.
ففي “الحارة” أسمع العديد من الأجراس لوجود العديد من الكنائس في آيشتات، استغربت الأمر في الأسبوع الأول لكني اعتدت بعد ذلك، وصرت متيقظة جداً للوقت بفضل تلك الأجراس. دون أن أنظر إلى الساعة أعلم أن الساعة وربع إن رنت الأجراس رنة واحدة، أو ونصف إن رنت مرتان ، وفي حال كانت إلا ربع فإنها ترن ثلاث رنات أما إن رنت ٤ رنات متتابعة فأعلم أن تامّة. 

ساعات الحارة الرنانة

- الجرعات بشكل عام عملاقة، فالعصائر “الصغيرة” في العادة تكون نصف لتر أو كما يكتبون 0.51 ليتر أو 500 مل. ومن الممكن جداً أن تجد عبوات من العصائر - على الماشي - سعتها 700 مل. وفي ما يسمى “حدائق البيرة” الموجودة في كل مكان (!!) خصوصً في بافاريا، فإن هناك كاسات عملاقة سعتها لتر واحد. 
 وفي معظم الأحيان في المطاعم وحتى عند زيارة بعض الأشخاص فإن سعة الكوب تكون مكتوبة عليه.
(أتوقع لأن الألمان - الجنوبيين تحديداً من اطلاعي - يشربون الكثير من الجعة “البيرة” والكحول، فهم بحاجة إلى حساب الكميات التي احتسوها حتى يقرروا ان كانوا يستطيعون القيادة أو لا)



الشقار والسمار ونسبية الألوان؛ كما هو متوقع فإن معظم الناس الذين أراهم ذوي بشرة فاتحة وشعر أشقر، الناس فاتحين لدرجة أن رموشهم وحواجبهم لا تكاد تكون ظاهرة. 
في الأردن، وبحكم أني لا أضع مساحيق التجميل في حياتي اليومية فإني أكون مقارنة بمن حولي باهتة. حتى في الصور، ألاحظ أن ملامح من معي في الصور تكون محددة في الغالب بينما أظهر أنا بشكل شاحب قليلاً. المفارقة أني لست باهتة هنا على الإطلاق، على العكس، وبصراحة لم أكن لأنتبه لو لم تقل لي أكثر من فتاة أننا - الشرق أوسطيين - محظوظون بالعيون والرموش والحواجب! ومن بعد أن سمعت تلك الملاحظة عدة مرات صرت أنتبه أكثر لملامح الناس وأدقق برموشهم، واكتشفت أن معظم البنات يستخدمون “ماسكارا” لتلوين الرموش فقط، حتى أن رموشهم قصيرة مقارنة بالفتيات والنساء العربيات.


- لفظ الراء غين مثل الفرنسيين
 هل كنتم تعرفون أن أندرياس هو أندغياس وكاترين هي كاتغين باللغة الألمانية؟!
وهناك زميل في دائرة الأحوال المدنية نراه بشكل دوري كنت دائماً أشعر أن اسمه غريب، حتى رأيته مكتوباً! اسمه “رودلف” لكني أسمع أصواتاً مثل أصوات بطوط صديق ميكي عندما يُنادى عليه ليتحول اسم المسكين إلى غودولف أو شيء من هذا القبيل. مثير للاهتمام، لا؟
 لا أدري لماذا لكن معظم الناس يعرفون أن الفرنسيين يلدغون بالراء، لكن الألمان ...؟ هذه بصراحة كانت جديدة علي. 
اسمي “روان” يتحول بالتركية إلى “ريفان” والفاء تكون أقرب إلى الواو صدقاً (w=v) لكن أن أتحول إلى “غافان” هذه كبيرة!

اليوم هو يومي الأربعون.
 لطالما كان لليوم الأربعين وقعٌ في موروثنا، في ديننا الكريم وعاداتنا وتقاليدنا. فدعوة التائب تكون مستجابة لأربعين يوم، وبعد الولادة تكون النفساء بانتظار اليوم الأربعين أيضاً، وأربعين الفقيد وغيرها الكثير من الأمثلة.

وتتكرر على ألسنتنا: “من عاشر القوم ٤٠ يوماً صار منهم.” صار منهم..؟ لماذا؟
هل لأنهم ألفوه وألفهم؟ هل لأنه أخذ وقته في فهم ما يدور حوله؟ هل لأن جرس لغتهم الموسيقي ولكنتهم دخلا خلايا دماغه؟ 
هل يعني ذلك أنه إذا صار منهم خرج من قومه؟ بالطبع لا. 
الإنسانية تعني أننا واحد، أنه - وبخلاف ما يروج له بشراسة هذه الأيام - ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا. القيم واحدة والفضائل واحدة، والرذائل واحدة، ربما تختلف الجزيئيات لكن الجوهر واحد.

الاختلافات يمكن أن تكون طريفة، وعلى العكس قد تكون نواة لصداقة. أعتقد أن مقتاح التقبل والاندماج وإثراء العلاقات أن نكون صادقين مع أنفسنا، مرتاحون معها، واثقون من شخصيتنا، ولا نحاول بأي شكل من الأشكال افتعال ما يخالف طبيعتنا وما نرتاح له. هذه ضمانة أكيدة على الحصول على التقبل وتلقائياً تعلمنا تقبل الآخر بدورنا ورحمة المختلف مهما كان. 


نسختي من المثل الشعبي ستكون: من عاشر القوم ٤٠ يوماً ذهبت عنه سحنة الغريب، ولن تتدور عينيه على كل جديد وعرف مكان كل شيء من نفاياته في أماكن إعادة التدوير!

هناك 8 تعليقات:

  1. الدقة في المواعيد
    *siiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiigh*

    الرنات = same here

    لفظ الراء غين مثل الفرنسيين = of course I knew
    I speak "J"ermanic very much
    :P


    ردحذف
    الردود
    1. اه الدقة بالمواعيد عادة جميلة لازم أرجعها معي الصراحة :)
      وموضوع الساعات الرنانة تربيطة إيدين،لا؟
      اما عن اللغة فيعني بيضحك الموضوع، المشكلة لأَنِّي ببافاريا عّم بتعلم ألماني قروي ..

      حذف
    2. هاها - قروي، عجبتني.
      المواعيد مفهوم مو صعب ولا بعيد علينا بس ما بعرف ليش بنرضخ بسهولة لخرقها!
      [ماهو الكل هيك / يعني طارت الدنيا / خسرت ملايين مثلاً مشاني تأخرت عليك / الخ] = عبارات بتقهر!
      الدليل لما نسمعها بنكون بدنا نخنق إلي قبالنا!

      حذف
  2. وبما إني بدأت أكتب بمجموعة من تعليقات على ما قرأت.
    ما كنت حاب أفوت التعليق على هاي المشاركة بالخصوص. قبل ما أنسى.
    مشاركة مفيدة جداً بحق، قديش بعرف ناس سافروا لألمانيا لكن في معلومات أول مرة بسمعها هون.

    رأيك بالاختلاف برضو جميل :)

    ردحذف
  3. شو حلوه التفاصيل اللي عم تحكيها والحلو أكتر إنها مش مملة
    *ملاحظة : عجبني إسمك بالألماني :') :*

    ردحذف
    الردود
    1. هاها :) شفتي بالله ..!
      اسمي بيضحك، كان ستغرقني لحظة لاستوعب انه حدا بينادي علي

      حذف

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...