هل كان الناس سابقاً أكثر احتراماً للمواعيد؟


عندما كنت في لندن، كان لدي صديقة إيطالية لطيفة اسمها مارتا. مارتا لم تكن فقط زميلتي في التخصص، بل جارتي أيضاً في السكن الجامعي الذي كنت أسكن فيه. ولأنها من إحدى دول حوض المتوسط، كنا نشعر بشيء من التقارب، نمشي معاً من وإلى الجامعة بشكل دوري، نتقاسم الفاكهة على الطريق ونتبادل الأحاديث عن الدراسة والطعام والعائلة ونتندّر (أحياناً) على برود الأوروبيين الغربيين وإيقاع الحياة السريع في دول الجزء الشمالي من العالم. 

كان لدى مارتا حس فكاهة لطيف، كانت مضحكة دون أن تكون لئيمة أو تسيء إلى أحد، وكانت تروي القصص بشكل جميل وجذاب حافل بالتفاصيل بلغة إنجليزية سليمة وبلكنة إيطالية ثقيلة. أتذكر جيداً قصص مارتا التي كانت تخبرني فيها عن جدتها. أحد تلك القصص التي لم أنسها أبداً، أخبرتني فيها مارتا عن نظرية من نظريات الجدة.

في أحد اجتماعات العائلة وفي نوستالجيا متوقعة إلى عقود غابرة مضت، تشير الجدة إلى أن الناس يميلون لأن يكونوا أكثر احتراماً لكلامهم ولمواعيدهم كلما قلت وسائل التواصل لديهم.
تروي الجدة أنه في طفولتها، كانت الطقوس مقدسة، عندما يقال؛ تجتمع العائلة بعد قداس الكنيسة يوم الأحد فإن العائلة قاطبة تعرف الموعد والجميع يأتون إلى الموعد. لا حاجة "للتأكيد على الموعد" ولا يتخلف عنه أحد إلا لظروف قاهرة جداً يعرفها الجميع. وبعد انتشار الهواتف الأرضية، صار الناس يتفقون على الاجتماعات واللقاءات عبر المكالمات الهاتفية، مع وجود إمكانية لتأجيل أو إلغاء الموعد عدة أيام مسبقة وكان من اللياقة ذكر السبب بالتفصيل.

أما الآن - تقول الجدة - فإن الناس فقدوا أخلاقيات التعامل مع الهواتف الذكية التي بحوزة الجميع كباراً وصغاراً. لا يوجد احترام لوعد أو كلمة، وهناك استخفاف متزايد بالمواعيد وأوقات الآخرين. ففي آخر لحظة وبشكل جبان - على حد تعبيرها - يقوم الناس بإرسال رسائل نصية مقتضبة وقت الموعد أو قبله بقليل يعتذرون فيه لأسباب واهية مبهمة، أو في أحسن الأحوال يقولون أنهم سيتأخرون وأنهم عالقون في زحمة السير. 

كلما خذلني أحد، أو ألغى موعداً في آخر لحظة، أو تركني أنتظر وحيدة،  أتذكر جدة مارتا. أتفق معها ودون الحاجة إلى دراسة أو بحث علمي يثبت فرضيتها أدعم نظريتها وأتبناها.


أتعرفون ما هو أكثر جزء أحببته في نظرية الجدة؟ "الجبن" .. أنها وصفت أؤلئك المتخاذلين بأنهم جبناء.
ليس من اللباقة الإدعاء بأن موعداً ما مناسب، أو أن اقتراحاً للقاء ما نال إعجاباً في الوقت الذي يضمر فيه السامع أنه لن يأتِ. 
من المضحك الآن أن قول كلمة "لا" باتت شجاعة. بالتأكيد سنقدر "لا" صريحة تعبر عن حاجات وميول صاحبها/صاحبتها عن "نعم" مجاملة ومتقاعسة ستخذلنا في آخر لحظة.

الذي ذكرني بقصة جدة مارتا مؤخراً عدد من المواجهات مع أهل، وأصدقاء، وغرباء في أوقات متباعدة وفي سياقات مختلفة. 

على سبيل المثال؛ لدينا أربع من القطط الصغيرة التي عرضناها للتبني في محاولة لتوفير حياة كريمة لمخلوقات بالغة الظرافة والهشاشة في آن واحد. من خلال مقطع فيديو قصير أعلنت على حسابي على انستجرام أن القطط الصغيرة معروضة للتبني. وصلني الكثير من الطلبات وكم هائل من الحماس والاستلطاف للفكرة، لكن عند الجد، مأساة .. لا احترام للمواعيد، استخفاف بوقت الآخرين، عدم جدية واضح في التعامل مع الأمر .. كانت خيبة أمل كبيرة.
حتى أن تلك التصرفات خلقت عندي ردة فعل عكسية تجاه أؤلئك الأفراد، وأصبح لدي شعور بأنهم مستهترون لن يتحملوا مسؤولية أرواح القطط وسيقضون عليهم بلا مبالاتهم الواضحة. 


أما عن خيبات الأمل الاجتماعية، فإن الحديث يطول. 
في جلسة حديثة العهد مليئة بالاستياء من نفس الموضوع، كان هناك أشخاص من أجيال مختلفة، بعضهم في أوائل الخمسينات وآخرون في العشرينات من عمرهم، المعظم لديهم تجارب متشابهة. كان الأصغر سناً يقولون أن الخلل في "جيل هذه الأيام" لكن يبدو أن الموضوع أعقد من ذلك فهو يطول المجتمع بكافة أطيافه.
كان هناك إجماع بأن العلاقات الإنسانية مجهدة، ببساطة .. علينا الاعتراف بذلك. القرابة والصداقة والزواج ..كلها علاقات تحتاج إلى مجهود ولا يوجد علاقات سليمة تلقائية أو استحقاقات دون أن يبذل الطرفين جهداً للتقارب والتآلف.
قالت إحداهن في تلك الجلسة جملة أعجبتني. قالت أن المسألة ليست وجود وقتٍ أو عدمه، الموضوع موضوع أولويات.


بالطبع هناك ظروف طارئة، وأعذار مقنعة، لكن إحصائياً وبالتماشي مع قانون الاحتمالات .. ما هي فرصة تكرار تلك الظروف القاهرة التي تطرأ في اللحظة الأخيرة؟

لذلك، ولنضع الأمور في نصابها:
التخلف عن المواعيد في آخر لحظة، الحنث بالوعود والاختفاء بعد أي اتفاق دون قول نعم أو لا .. كلها تصرفات أنانية لا تحترم الطرف الآخر. 
من المعلوم عند أخذ موعد أو الاتفاق على أمر ما، فإن هناك طرفاً يأخذ من وقت الشخص الآخر، يحجزه في وقت محدد من يوم معين، ويلغي كل خططه لأجل ذلك الشخص لأنه أعطاه أولوية. 
وعليه فعند إلغاء الموعد في آخر لحظة فأنت تقول له/لها: "أنت لست مهماً/ مهمةً بالنسبة إلي حتى أتفرغ للقائك وأترك ما أفعله حالياً على الرغم من أني أعلم أنك قمت بإلغاء كل خططك ومواعيدك ذلك اليوم للقائي." أنت تقول لهم بوضوح أنهم ليسوا أولوية بالنسبة إليك ولا يعني لك وقتهم شيئاً.

سأنهي تدوينة الفضفضة هذه بتوجيه شكر إلى هناء وناديا وخالتو ميسون .. أنتن رائعات! التزامكن مصدر إلهام .. أشكركن على الحب والتفاني واحترام الوقت وتقديس مواعيدنا، أنتن قدوة بالنسبة إلي وأعدكن أن أبادلكن ما تستحقونه من الحب والالتزام بالمواعيد وإعطائكن أولوية على كل شيء آخر. شكراً لوجودكن في حياتي لأنكن تعطوني الكثير من الأمل. 

هناك 8 تعليقات:

  1. روان، شكرا!فضفضتي عنك وعنّي. I couldn't have said it better.
    ما بقدر أنكر اني سيئة بالوصول على الموعد، خصوصا بالعلن ههه
    لكن الإلغاء او التردد بآخر دقيقة بالفعل امر مستفز ويُشعر الشخص بعدم الاحترام والأولوية
    كل الحب والشكر ايضا لتقديسك لمواعيدنا (وإن قلّت) على غير عادة هذا المجتمع 3>

    ردحذف
    الردود
    1. أظن في هامش مقبول للتأخر عن المواعيد .. على الأقل مواعيدنا :)
      وخلينا نكتر هالمواعيد صحيح ^^

      حذف
  2. شكرًا روان على هذه التدوينة الجميلة، ببداياتها مع التعرف على مارتا وحكاياها وحكم الجدة والعائلة، ورؤية هذه القطط الصغيرة اللطيفة :)
    أعجبتني جدًا نظرية الجدة واتفق معها فعلًا.
    أسأل الله أن يجعلنا ممن يحفظون العهد والوعد أيًا كان.

    وأخيرًا: سعيدة بحروفك التي تنير كل فترة صفحة المدونات التي أتابعها.

    ردحذف
  3. شكراً نوار! سعيدة جداً بمرورك وتعليقك :))
    وسعيدة أن التدوينة (الفضفضة أو فشة الخلق ^^) أعجبتك ..

    منذ فترة لم أرك في الدرس .. أتمنى أن تكوني بأحسن حال
    نراك إن شاء الله على خير :)

    ردحذف
  4. بسم الله الرحمن الرحيم، الجواب: نعم.

    *يا رب النجاح*

    :))

    شكرًا للكلام اللي مثل ما كتبت ناديا ونوار إنو بفش الخلق. أنا ما حأعتبر إني ممتاز بدقة المواعيد ولكن أزعم إني لا أتساهل بإلغائها هكذا كيفما اتفق!

    كل شيء له ثمن، زيادة وسائل التواصل معناها أن كمية ال(معلومات) التي تحتاج أن تغربلها وتستوعبها ستزيد وواحد من الآثار هو عدم قدرتك على الوفاء بمتطلبات مواعيدك!

    بسيطة المعادلة ولكن الإحاطة بها و(إدارتها) صعب! ترتيب الولويات مهم والاستمرار باحترام تلك الأولويات هو الصعب -بنظري-

    ردحذف
    الردود
    1. ^.^
      عن جد بتحس السؤال تقريري مش استفهامي .. فكرك أغير العنوان ل "أولم يكن" ...؟ بتطلع أدق :)

      معك حق ، ترتيب الأولويات والاستمرار باحترام تلك الأولويات بالفعل .. الله يعينا ويقدرنا على ذلك

      حذف
  5. أتفق مع كلّ كلمة كتبتِها..
    ألا تشعرين أيضا أنّ المشغولين حقاً هم الأكثر احتراما لوقت الآخرين؟ ولأنْ تأخذي موعدا أو تقابلي أحد المشغولين أهون ألف مرة من مواعدة الفارغين، لأنه ببساطة لو أدرك الفارغ قيمة الوقت لما بقي فارغاً من الأساس!! (نظرية الجدّة-٢) :-))

    ردحذف
    الردود
    1. كلام سليم :)
      نعم أتفق بالتأكيد. نظرية أخرى تضاف إلى النظريات!

      حذف

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...