قرأت لكم


اغتيال الأشجار – عبد الرحمن منيف

"...ومن الثوابت في السياسة الإسرائيلية أيضاً: اغتيال الأشجار. إذ مع اصطياد الأطفال بشكل خاص، وإطلاق الرصاص الحي على صدورهم والرؤوس، في محاولة لاختصار شهود المستقبل، فإن الأشجار الفلسطينية تبدو عدواً رئيسياً أيضاً، ليس باعتبارها ساتراً لإخفاء رماة الحجارة، كما يزعمون، وإنما باعتبارها شاهداً وبالتالي عدواً يجب القضاء عليه.

انظروا..ودققوا: أي الأشجار يختارها العدو الإسرائيلي هدفاً، ويصب عليها كل غضبه وحقده؟

يختار أولاً: أشجار الزيتون. فهذه الأشجار – الذاكرة، الرمز، والتي تمثل الاستمرار أيضاً، تطالها المجازر بالدرجة الأولى، والأشجار المعمرة منها بوجه خاص، إذ لا يريد العدو أي دليل وبالتالي أي شاهد، يؤكد أن الحياة كانت خضراء مزدهرة قبل أن تستولي على هذه الأرض، لأن دعايته تتركز على أنه جاء لأرض صحراء بلا شعب، وبمجرد أن وطأتها أقدامه تحولت إلى الخضرة والناء. ولذلك فهو حريص اليوم على إلغاء أي أر للحياة قبل وصوله، وبالتالي يفترض أن إخفاء الأثر دليل على عدم وقوع الجريمة!

ويختار، ثانياً، حين لا يجد الزيتون، وفي السهل الساحلي – غزة وما جاورها – النخيل. فالنخيل الذي ينوب عن الأشجار الأخرى والذي يعمر طويلاً، كما يطل من عل ويرى كل شيء، ويؤكد في نفس الوقت على قوة الحياة والصبر معاً، ولا بد أن يكون دليلاً وشاهداً في المستقبل، فلا بد أن يدمر هذا الدليل والشاهد، وهكذا يصب العدو الإسرائيلي حقده على أشجار النخيل، وبهدف مزدوج: أن يلغي الشاهد، وأن يقول للعرب، كل العرب، باعتبار النخيل رمزاً لهم: لقد أهنتكم جميعاً وقهرت رمزكم المتمثل بهذه الشجرة!




ويختار ثالثاً أشجار اللوز والكرمة، باعتبارها تحب الأماكن العالية وتحتمل كل صنوف الجو، فهي تحتمل الحر والبرودة، وتعرف كيف تصبر وتتكيف وتقاوم، ولذلك فهي قادرة على البقاء والتجدد، وقادرة على المقاومة أيضاً، وهو لا يريد أن يرى أشجاراً من هذا النوع – الرمز، وهذا ما دعاه إلى الفتك بها.

أما أشجار الحمضيات، وكانت ولا تزال أحد رمز فلسطين العربية، فقد استطاع خلال فترة استعماره لها أب يجيرها لمصلحته ولاسمه، كما حول أشياء عديدة: الملابس، الأكل ، الألحان، ولا يعرف ماذا يمكن أن يحول غداً.

إن الاغتيال الذي يمارسه  العدو الإسرائيلي تجاه البشر والأشجار وجميع مظاهر الحياة الأخرى دليل على الحقد والإفلاس، ويتبدى هذا الآن في مواجهة الانتفاضة الثانية، خاصة من قبل المستوطنين، إذ إنهم بتصرفاتهم، وبمواقفهم، يرفضون أي وجود للآخر وغير مستعدين لإعطاء أي شيء، ومن هم هؤلاء؟  إنهم الذين جاؤوا بالأمس القريب والذين لم يتعلموا العبرية بعد، ولم يروا شجر الزيتون من قبل ، ولم يعرفوا أشجار النخيل قبل أن يصلوا إلى فلسطين، ومع ذلك يدعون حقهم فيها وأنها لكم منذ الأبد وإلى الأزل.

لذلك فإن الرد، فلسطينياً ثم عربياً: المزيد من المقاومة، المزيد من الصبر، المزيد من التفاؤل، وأيضاً – وخاصة في هذه الفترة بالذات – المزيد من غرس الأشجار، أشجار الزيتون أولاً، وأشجار النخيل ثانياً، وأشجار اللوز والكرمة ثالثاً، والحمضيات في كل وقت وفي كل مكان، كي تبقى الأرض خضراء وللتأكيد أيضاً أن الأجداد ثم الآباء كانوا يزرعون بدل كل شجرة تقطع شجرتين، وكانوا يحرصون أكثر ما يحرصون على زراعة أشجار الزيتون لأنها دائمة الخضرة وفيرة العطاء عميقة الجذور وتعمر طويلاً، كما أنها رمز لفلسطين الأجداد وستبقى كذلك للأحفاد ولعل هذا أكثر ما يغيظ العدو الإسرائيلي وأكثر ما يخيفه."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...