ولا كأنه بالأردن


على الرغم من كثرة المشاغل وازدحام هذه الأيام بالأعمال والمهام، نحاول استقطاع أكبر قدر ممكن للاستمتاع بالأجواء الربيعية المؤقتة التي ستغادرنا بغتةً كما في كل عام، مخلّفة وراءها حشائش مصفرّة، ونهاراً أطول وربما بضعة أيام كئيبة مغبرّة تنذر ببداية القيظ في فصل صيفي حار ينتظرنا.

سعيد الحظ في هذا الفصل البديع القصير هو من تسنح له الفرصة بالخروج من المدن (وأشباه المدن) والذهاب إلى الريف والقرى والأحراج،  فهناك يكمن الربيع الحقيقي ولا تغطيه المسوخ الاسمنتية والحواجز السمجة التي تسد الأفق بشكل جائر وتعلّب رواد المكان وتحول دون شعورهم بجمال الطبيعة في هذا الوقت من السنة.

تمكنا حتى الآن من الوصول إلى الفحيص الأسبوع الماضي، بينما "شطحنا" نهاية الأسبوع هذه في جرش متجاهلين إشعارات تطبيق "طقس العرب"المتكررة  والأخبار المتداولة على المواقع وألسنة الأمهات بقدوم منخفض جوي ماطر. الحقيقة أننا كنا سعداء جداً باستغلال فترة الصباح في المشي بين الآثار والمساحات الخضراء المنتشرة على التلال والجبال المحيطة، وحالفنا الحظ بأن الزخات المطرية بدأت بالتساقط عندما انتهى "المشوار" وعزمنا الرجوع إلى عمان.



كان التخطيط للرحلات أيام عطلة نهاية الأسبوع الشغل الشاغل لي في الآونة الأخيرة ، كنت (ولا أزال) أحث الأهل على الذهاب وأحمسهم على بذل ذلك المجهود البسيط في سبيل "شم الهوا" وإقناعهم بأنه أجمل من الجلوس في الحديقة الخلفية وراء البيت أو طلب المأكولات الجاهزة وتناولها باسترخاء في مطبخ البيت في وقت متأخر في ظهيرة يوم الجمعة بملابس مريحة!  تشجيع الصديقات على الانضمام كان لا شك أسهل بكثير.
لكن مما استرعى اهتمامي كان استخدامي، واستخدام من حولي عبارة "ولا كأنه بالأردن" لوصف جمال مكان ما وتشجيع الآخرين على الذهاب إليه.
 ألا يدعو ذلك للتأمل؟!


أعتقد أننا نتحمل مسؤولية هذه الجملة المجحفة، فنحن لا نعرف الأردن! ما هو الأردن؟ هل الأردن هو المناطق السكنية في عمان؟ أم أنه طريق عمان - الزرقاء باختناقاته المرورية؟ هل الأردن طريق إربد الممتلئ بجهل باعث على الحزن واليأس بالسهول المغطاة بالأكياس البلاستيكية؟ للأسف، تلك هي صورة الأردن في مخيلتنا. لا أنكر أنها جزء من البلد، بالتأكيد تلك مشاهد يومية في حياة آلاف القاطنين في الأردن. لكن بالمقابل هناك مروج خضراء على مد البصر في الشمال، وهناك غابات برقش وزوبيا بأشجار سنديان و أشجار بلوط متفاوتة في الحجم والعمر والجمال، هناك غابة وصفي التل الحرجية على طريق جرش، وهناك مروج أزهار برية ملونة في سموع وكفر الما والطريق الزراعي في المزار. 


"ولا كأنه بالأردن" تبدو عبارة مضحكة قليلاً، فحتى ما نصفه بأنه أخضر وجميل وليس كأنه من الأردن لا يبدو إلا أردنياً، فالمتمعن بالمشاهد سيتسلل الفخر غير المبرر إلى قلبه أنه لذلك المكان الخلاب خصوصية أردنية وهوية أصيلة تلقائية بعيداً عن الشعارات ومظاهر الوطنية الزائفة.
سنرى رعاة يرتدون كوفيات حمراء ليس لأنهم يريدون إثبات شيء، وإنما لأنها جزء من موروت نشأوا عليه. كما سنصادف أزهار برية في كل مكان لن تراها إلا في هذه المناطق من العالم، حتى الأحجار الطبيعية والبقايا الرومانية في المنطقة ستبدو مألوفة لدينا وسنشعر أن ملكيتها تعود لنا ولا شك أننا سنستهجن فكرة نقلها إلى متحف من متاحف أوروبا. أليس كذلك؟
شخصياً، قررت عن الامتناع عن استخدام هذه العبارة ..

ربيع سعيد :)

هناك 8 تعليقات:

  1. الأردن فيها كثير من الأسرار الجمالية

    شخصيًا أعرف عن بعضها (الشمالي) وأجهل الجنوبي.

    الوسط = اكتظاظ من لما انولدنا ولا أجد لا ربيعًا ولا جمالاً بسهولة.
    شرق و غرب = صحراء وغور وبحر ميت .. خبرت بعضها ولكن بلا استحواذ جمالي (على روحي)

    :)


    -----------------------
    هون عطلة الربيع بدأت.. بأمطار! بس للحق اليوم مشمسة بس مع هواء بارد جدًا! :(
    *لازم لطميات هيثمية عن الجو ها هنا.. لازم!*

    ردحذف
    الردود
    1. أتفق مع القسم الأول وأتعاطف مع القسم الثاني :)

      فعلاً أسرار جمالية تعبير موفق لأنها مخبئة وغير واضحة للعيان ويجب أن تكتشف.
      وأنا شخصياً أعرف الجزء الشمالي وأجهل الجنوبي أيضاً.
      بس مشكلتي انه الناس الأسهل عليها تتشكون وتتذمر وتحكي قديش البلد بشعة وما في مكان نروح عليه، عن انها تبذل شوية مجهود و تتنشط وتترك تلفوناتها الذكية وتحاول تدور شوي على أماكن جميلة آخر مرة زاروها يمكن برحلة صف رابع.

      ترى وضعكم أحسن منا اذا شمس لانه احنا عنا مطر، بس بتهون اذا هالمنخفضات رح تطول عمر الربيع :))

      حذف
  2. الشتا..كإنك بماليزيا،،
    ولا النظافة.. كإنك بألمانيا،،
    أما المعجنات.. تقولي قاعدة بنص بيروت
    فيه ازمة افتخار بالوطن، ولما نيجي نفتخر ونحب الوطن، بنحبه بطريقة خاطئة
    يلا.. الله بعين

    ردحذف
    الردود
    1. هاهاها .. عن جد عطر! ضحكتيني بس معك حق
      وللأسف الافتخار بيكون بسياق غريب وبالفعل في مشكلة بالتعبير عنه

      حذف
  3. تدوينة جميلة روان...ومضحكة بنفس الوقت، إلي ما بعرفك وبقرأ وصفك للمدن رح إفكرك anti-civilization وحضارة :)
    #المسوخ-الإسمنتية

    سعيدة إنك رحتي مع حد بقدر التفاصيل :)، وعلى سيرة انتباهك للتفاصيل واسقاطك عليهم...آخر سطرين خلوني أهز راسي وأتمعن بروعتهم...
    "...سنرى رعاة يرتدون كوفيات حمراء ليس لأنهم يريدون إثبات شيء، وإنما لأنها جزء من موروت نشأوا عليه. كما سنصادف أزهار برية في كل مكان لن تراها إلا في هذه المناطق من العالم، حتى الأحجار الطبيعية والبقايا الرومانية في المنطقة ستبدو مألوفة لدينا وسنشعر أن ملكيتها تعود لنا ولا شك أننا سنستهجن فكرة نقلها إلى متحف من متاحف أوروبا. أليس كذلك؟"

    :))

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً نور صديقتي :) سعيدة إنها عجبتك
      آه عن جد، يبدو عندي مشكلة مع المدن هاهاها .. صراحة مش المدن قد ما هو أشباه المدن يلي بدون مدنية (كحلتها عميتها .. اتحول الموضوع لمشكلة سيكولوجية اجتماعية P;)

      حذف
  4. كالعادة
    وصف رائع وكلام حسن
    وجانب لا نراه فى نشرات الأخبار من الأردن
    وأحب أن أوضح
    أن أهل المدن ينبهرون بالريف
    لكن لا يستطيعون العيش فيه
    لو زادت الزيارة عن الحد سيتأففون !!
    أهلى يعيشون فى الريف وأنا فى المدينة
    أحب شئ هنا وأحب أشياء هناك :)

    ردحذف
    الردود
    1. أهلاً محمد :) شكراً على المرور والتعليق!
      ومعك حق بخصوص أهل المدن، سمعت هذا الكلام أكثر من مرة .. أننا ننظر برومانسية للريف لكننا لن نستطيع العيش فيه. لكن الحقيقة أن مدننا (على الأقل في الأردن) لم تصل مستويات عالية من المدنية! للمفارقة .. وكأننا في كثير من الجوانب نعيش في قرى كبيرة ، لكني لن أتمكن من معرفة ذلك إن لم أجرب :))
      دمت بخير دائماً

      حذف

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...