التصالح مع شيء من الوحدة


 يُقال أن أكثر الناس سعادة هم ليسوا أشخاصاً ليس لديهم مشاكل - فالجميع عندهم ما يهمّهم ويشغلهم في حياتهم - وليسوا بالضرورة أغنياء أو حتى أصحّاء بالكامل، إنما من يستطيعون الاستمتاع بالتفاصيل الصغيرة ويكونون ممتنين لما لديهم في الوقت الراهن.

قلة قليلة مولودة بهذه الصفة، أغلب ظني أن هذه مهارة مكتسبة مع الوقت، تبدأ بالتطبع لتصبح جزءاً من الطبع. تنطوي على الكثير من الوعي واليقظة للتفاصيل وعدم الاستسلام للظروف والتذمر والشكوى التي نحاط بها شئنا أم أبينا.


أعتقد أن أعلى درجاتها أن تكون نابعة من الشخص نفسه، فالأصدقاء لديهم ذلك التأثير المحبب على أن تكون الأوقات أكثر مرحاً وتسلية، والأهل أيضاً يعطونا تلك الطمأنينة والسكون التي تجعلنا مسترخين غير قلقين من شيء وكأن لدينا ذلك السند الذي نتكئ عليه والذي يحمينا من أي ضرر. لكن ماذا إذا لم يكن أحبائنا حولنا؟ أو كانوا قريبين معنوياً لكنهم فيزيائياً بعيدون جداً؟

تلك أحد لحظات الحقيقة؛ هل نحن حقاً أقوياء ومستقلون بالدرجة التي كنا نظنها؟
هل سعادتنا تنبع من داخلنا حقاً أم أننا نستمدها ممن حولنا؟
هل نستطيع أن نكون سعداء مع أنفسنا ومرتاحون معها دون الشعور بالضيق والوحدة؟

قضيت نهاية الأسبوع الماضية لوحدي، وكنت بالفعل أفتش عن السعادة تفتيشاً. في القرية الصغيرة كل المحلات التجارية تكون مغلقة يومي السبت والأحد، وحتى المطاعم تغلق الساعة السادسة. الإيقاع أصلاً بطيء في القرية فلكم أن تتخيلوا كيف يتباطئ بزيادة في العطل، والحالة الجوية لم تكن مساعدة أيضاً.

تمشيت عصراً لألتقط بعض الصور لكن الجو الماطر منعني من إكمال جولتي. وأنا عائدة إلى مكان سكني أسرتني رائحة الطبخ المنزلي المنبعثة من النوافذ النصف مفتوحة وضجيج أصوات الأطفال وأحاديث الكبار وقرقعة الملاعق والشوك، وشعرت بالاشتياق الشديد لأسرتي.


تقول صديقتي هناء؛ كل شيء في الحياة قرار. ولأن السعادة قرار قررت أن أستمتع بأمسيتي الهادئة. فصرت أبتسم لأبسط الأمور، كسماع أحد الجيران اليافعين في سكن الطلاب المجاور يصفّر بشكل موسيقي من الشباك ثم انصرافه إلى العزف على جيتاره. لا أذكر متى كانت آخر مرة استمتعت فيها لهذه الدرجة بموسيقى حية. وجوده في الحارة وإنصاتي له عن بعد كان لقطة سينمائية جداً. بحثت عن السعادة لاحقاً بالانكباب على قراءة كتاب باستغراق، فقرأت عدداً لا بأس به من الصفحات من كتاب علي الوردي “خوارق اللاشعور”. كما تفننت بتحضير سلطة من كل الخضار الموجودة لدي في ثلاجتي الصغيرة، وحاولت الاستمتاع بكل لقمة. وبكل تجرد كنت أكثر من سعيدة للنوم باكراً بعد صلاة العشاء لتعويض كل إرهاق الأسبوع الماضي.  




مكتوب باللغة الألمانية: "رجاء أعطني ما أحتاجه"

شعرت وأنا أضع رأسي على الوسادة أني نجحت بالاختبار، فقد نمت دون الشعور بالسأم والكآبة. كان أمامي خيارين أن أقضي الوقت مع أشخاص تعرفت عليهم جديداً لكني لست مولعة بهم، أو قضاء الوقت بمفردي، وكنت بالفعل أكثر سعادة بمفردي :) انتصار بسيط لفتاة في الغربة 



هناك 8 تعليقات:

  1. عزيزتي روان:

    ما بتتخيلي أثر هذه المدونة في نفسي، في هذه الساعة وعن موضوع السعادة بالغربة والاستمتاع بالتفاصيل الصغيرة...

    رسمتي أكبر ابتسامة بداخل قلبي بكلامتك ☺️ الله يسعدك 💕 وان شاء الله بتعيشي تفاصيل كتيرة حلوة وسعيدة بالفترة اللي ضايلتلك بهاي الغربة القصيرة ☺️🙏🏽

    شكراً على كل الجمال اللي بلامس القلب لما الواحد يفتح "سلة الرمّان" ❤️☺️

    ردحذف
    الردود
    1. والله انت يلي رسمتي الابتسامة على وجهي يا إسلام بتعليقك الجميل وكلماتك الدافئة! :)))

      أنا كتير سعيدة انه التدوينة المتواضعة عجبتك وقدرت تتواصلي معها ^.^

      متابعين لطيفين مثلك هم سبب استمراري على الأغلب

      شكراً الك ولدعمك وتقديرك :*

      حذف
  2. وهنيئاً لكِ الانتصار البسيط ☺️👍🏽 أصلاً إنتِ قدها 💪🏽 الله يجزيكِ كل الخير ☺️

    لازم تضيفي نية إدخال السرور على قلب مسلم مع كل تدوينة بتتزليها لإنه فعلاً هاد اللي بصير سواءً لما تنشري كلماتك أو صورك أو رسماتك وتصميماتك ☺️😍 <3

    ردحذف
    الردود
    1. يييي :))) الله يسعدك!
      ما فكرت فيها من قبل زي هيك ^.^ الله يجزيك الخير ويسعد قلبك

      حذف
  3. تدوينة جميلة جدا يا روان!، قرأتها من فترة لما نزلتيها بس وقتها لم أستطع الرد!
    و صديقتك إسلام معها حق فعلا!، لازم تضيفي نية إدخال السرور على قلب مسلم ❤️❤️❤️

    التدوينة أنا متأكدة رح أستذكرها كتير خلال الأشهر القادمة...خاصة بالأيام إلي قرار الاستمتاع بدقائق الأمور رح إكون أصعب.
    ومنه ارجعت استرجع احدى اقتباساتي المفضلة لكاتبي المفضل ريلكيه لما قال:
    "“Therefore, dear Sir, love your solitude and try to sing out with the pain it causes you. For those who are near you are far away...and this shows that the space around you is beginning to grow vast.... be happy about your growth, in which of course you can't take anyone with you, and be gentle with those who stay behind"

    ملاحظة: المشهد السينمائي مع ابن الجيران وعزفه للموسيقى عمل download بمخيلتي :)

    ردحذف

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...