مجنونتان


مجنونتان - بقلم رمزي الغزوي

لم أكن أدري حين هربت من الزحمة إلى شارع فرعيّ كي لا أؤخر طفلي عن جرس مدرستهما أنني سأقع في عشق جديد، من أول غمزة عطر وضحكة ثغر. فخففت السرعة إلى حد أن الماشي يسبقني، وحدقت مشدوداً بحبل يسحبني من رأس رموشي: "ياااااه، ما أجمل أن تقع في عشق آخر أيها الولد الثلاثيني" فيهمس لي طفلي مستهجناً تباطؤي في القيادة: "سنتأخر يا بابا"، فأوصلهما على عجل، وأعود للحريق ذاته أو الطريق.

كانت المذيعة تتحفز لقراءة موجز الثامنة لمّا نوّست صوتها على آخره وخففت من سرعتي حتى سكنت تماماً قبالة بيت المعشوقة، وحين أمعنت البصر؛ كانت معشوقتي معشوقتين! فيا نار قلبي، ما كنت سأحتمل واحدة؛ فكيف باثنتين؟! مجنون أنا وأعرفني، فمنذ انلع الحب الأول في دمي، وأنا أقع في عشق هاتين الرائعتين.

فصباح الخير أيتها الياسمينة الزاحرة بندف ثلجها الأبيض المضمخ عطراً، وصباح الخير أيتها المجنونة العامرة بأجراس حمرتها الملتهبة كقلوب العاشقين، كم أغبط البيوت التي على عتباتها تنبت معشوقتان تمتزجان معاً في آن واحد، فهذه بياضها الشهي كالثلج، وتلك بحمرتها الصاخبة كالضحكات: فصباح الخير مرة عاشرة أيتها الياسمينة المجدولة بمجنونة مجنونة..صباح الحب!

ولو أن لي قلباً كالذي في كان في قفص صدري حين كنت ولداً في العشرين، لنزلت من السيارة الآن، وكبست بجرأة عاشق جرس البيت، ستفتح لي خادمة نحيفة، سأصبّح عليها، وأطلب منها أن تنادي البابا، فيخرج رجل سبعيني وقور، بيده كأس شاي نصف ملآن، أسلم عليه وأقول له: "يا عم، أدري أنك ستقول عني مجنوناً، حين أستسمحك أن أهزّ هاتين الشجرتين هزّتين اثنتين، كي أطيب بمطر الورد من بعض جنوني، سيضحك الختيار ويقول: "دونك" ولكني وقبل أن أهزّ الشجرتين سأتأكد أنه ما من حجر عالق فيهما، فرأسي لم يعد يحتمل جراحاً آخر.

فذات جنون عشريني، كنت أنا وصديقي في العودة من الجامعة نسير في شارع فرعي، فوقعت في العشق للمرة الأولى: عشق شجرة ياسمين مجدولة بشجرة "جهنمية" (مجنونة)، ولأن الشباب ضرب من الجنون طرقنا الباب، فطلت "حاجّة" وقورة، فقال لها صديقي: "معي ولدٌ مجنون! لا يبرد جنونه ولا يبرأ عشقه إلا بأن نهزّ على رأسه هاتين الشجرتين". فقالت ضاحكة: "دونك"، فهزّ صديقي المجنونة المتواشجة بالياسمينة هزتين رشيقتين وكان حجر صغير على موعد مع نافوخي، فنقرني بجرح أحمر، من فرط النشوة لم أشعر بدمي إلا حين برد!

ويرن هاتفي الجوال: "تأخرت حبيبي..بردت قهوتك".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...